إن أخطر الآفات دائما أخبثها. تلك الآفة التي تدخل الجسم من أصغر نقطة ضعف به؛ لتحيا وتتكاثر وتتلف الأعضاء من الداخل ولكن بالتدريج وببطء شديد؛ فهي تأكل من الجسد ما يكفي لتدميره وتترك له دائما ما يجعله متماسكا متزنا حتى لا يظهر أي استجابة مناعية تهدد بقاءها؛ فلا يكتشف الإنسان مرضه إلا ويليها جملة "لقد فات الأوان... إن المرض في مراحله الأخيرة"... وبهذا تكون الآفة قد حققت مرادها... ولكن يبقى السؤال من هو المخطئ؟ ذلك الذي ترك جزءا عاريا من جسده للآفة تنخر فيه؟ أم المجتمع الذي لم يعقم بيئة الإنسان جيدا من الآفات؟
وبالبحث عن جواب وجدنا أنها علاقة تكاملية... فإذا فسد الجسد... ضاع الإنسان... وسقط المجتمع... ولذلك يقع الواجب متقاسما بين تغليف الجسد من قبل الإنسان وقتل الآفات من قبل المجتمع. إذا فالحل بسيط طالما كانت المشكلة مادية ملموسة.
ولكن ماذا يحدث عندما تكون الآفة غير ملموسة؟ مجرد فكرة... استطاع خالقها بغض النظر عن نيته في إقحامها في عقل الإنسان مع التأكد من إيمانه بها... وهذا الإنسان له أناس يثقون برأيه؛ فتتناقل الآفة وتصبح رأيا مرجحا ثم مبدأ ثابت يتوارث؛ وإذا غفل عنه المجتمع ووصل إلى هذه المرحلة أصبح محاربته رحلة فشلها محتوم...
ومع الأسف الشديد لا تأتي تلك الآفة إلا من أكثر الناس مصداقية أمام الجمهور... فمع أنك أكثر الناس حيطة ترفض أكل العسل مخافة السم الموضوع فيه في مجرد مثل شعبي، تفتح فمك للسم في صورته الأصلية وبسعادة بعدما يحدثك من تثق برأيه عن فائدته العائدة عليك.
في عام ٢٠١٤ ظهر على اليوتيوب شاب في العشرين من عمره تقريبا يتميز بثقافة عالية وحضور طاغي وحس فكاهي جعل الشباب يكملون مشاهدة مقاطعه التي تتجاوز مدتها غالبا عن الثلاثين دقيقة، وهذا في وقت انتشر فيه مصطلح "عصر السرعة" فلا معنى لأغنية تزيد عن خمس دقائق، ولا معنى لفيلم يصل عرضه إلى ساعتين، والأغنية والفيلم أساليب ترفيهية الغرض الأساسي منها عند أغلب الشباب هو إضاعة الوقت؛ فكيف استطاع الشاب أحمد الغندور الملقب بالدحيح الإمساك بالشباب لمدة ثلاثين دقيقة وهو يشرح النظرية النسبية لأينشتاين أو درسا في علم الجينوم؟ فماذا بينك وبين الله؟
ولكن ظاهرة الدحيح لاقت كل الحب والتقدير من الشباب الذين أرادوا الثقافة بلا ملل ومن الكبار الذين فرحوا لرؤية أبنائهم يتثقفون، ولكن وبالتدريج اتسعت دائرة جمهور الدحيح حتى أصبح واحدا من أهم المؤثرين الشباب بالشباب. كسب الثقة المطلقة. أصبح المصدر والبرهان والقدوة في آن واحد.
كان الوضع مستقرا طوال الفترة الأولى من ظهوره عندما كان مقتصرا أغلب الوقت على دورس العلوم والأحياء وهي مجال دراسته الذي نبغ فيه، ولكنه توجه بعدها لاستثمار أسلوبه المقنع والمؤثر في غرس العديد من المعلومات التاريخية والبحثية غير الحتمية في عقول الشباب، وهنا بدأت المشكلة.
بدأ الشباب يتحدثون عن الماسونية وتاريخها وعن العديد من الشخصيات المعروفة التي آمنت بها. قالوا أنها ليست بالسوء الذي نتحدث عنه اليوم، وأن الناس تتكلم عنها هكذا متأثرين بنظرية المؤامرة وهذا ليس له أساس من الصحة، وأن أهم الشخصيات التاريخية انضمت إليها مثل جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. لقد قيلت المعلومة بهذا الشكل على لسان الدحيح، ولم يتم لفت النظر إلى أن جمال الدين الأفغاني انضم إلى الماسون بعد قيامهم بالثورة الفرنسية تحت شعار "حرية وإخاء ومساواة" وسرعان ما ارتجع الأفغاني عن الماسونية بعدما خاب أمله فيها، وعلى نفس المنوال ذهب الشيخ محمد عبده منضما إلى الماسون أولئك المنادين بحرية الشعوب والمساواة بين الجميع، ولكنه تفاجأ أثناء حضوره للمحفل البريطاني أنهم مؤيدون للاحتلال البريطاني ولم يروا أي حقوق للشعوب المحتلة في حرية ومساواة، فخرج من المحفل وهو مدرك لرغبتهم الحقيقية في السيطرة على العالم تحت قناع الحرية والإخاء والمساواة وخرج عن المنظمة؛ وبذلك تصبح معلومة الدحيح من قبيل نظرية "لا تقربوا الصلاة...".
وازداد الوضع إثارة للجدل عندما تم تداول ردوده على أسئلة الشباب؛ حيث سأله أحد الشباب عن سبب وجودنا على الأرض؛ فأجابه لنأكل ونتكاثر وننام وماذا يريد الإنسان أكثر من هذا؟ نعم كان هذا رد واحد من أكثر المؤثرين بالشباب وهو مدرك لمكانته جيدا.
ولكن هذا الرد لم يكن غريبا إلى تلك الدرجة، لأنه في أغلب حلقات برنامجه يظهر تفكيره على هذا المنوال، فتجد الهزلية بأكثر الأمور يقينا واليقين في أكثر الأمور تشكيكا.
وإن فسرنا الأمر بطريقته سنقول أن كل هذا ليس لكسب المزيد من المشاهدات فقط، بل هناك سبب خفي وراء كل ما يقوله، ولكن هذا ليس بحل للمشكلة، فهناك أفكار ومعلومات استقرت في العقول بالفعل، فالحل هنا هو نشر فكرة أن العقل ليس معصوما من الخطأ، ولكن هناك ما هو معصوم قرآن وسنة والإلمام بهما أمر ضروري على كل مسلم قبل ترك عقله لسماع فرضيات عقلية.
ولأن العقل ليس معصوما من الخطأ، فمن الأولى دائما أن تتبع عقلك أنت بما فيه من مسلمات ومبادئ راسخة، فمهما وصل حبك وتصديقك لشخص ما لا تسلمه مفتاح عقلك ليضع فيه ما يشاء، قف أنت على البوابة وانتقي من أفكاره ما يتلاءم مع عقلك وليس العكس.
فالتسليم لله نجاة والتسليم للبشر هلاك.
التعليقات