لكل بيئة ثقافتها التي تحدد هويتها وتشكل بنيتها الحضارية، ومنها ينمو المجتمع بمجموعه وأفراده؛ منتجين بفطرتهم واندماجهم؛ العادات والتقاليد وأساليب التواصل واللغات المحددة لشكل هذه المجتمعات. ولعل الثقافة الإنسانية بمفهومها الشامل في مجتمع ما؛ تتولد من جملة ما يعيشه أفراده من تجارب وما يواجهونه من تحديات، متأثرين بجغرافيا المكان وما مربه أحداث أوجدت له أصولا وأنبتت له جذورا وأرَّخت لأحداثه الجسام محددة ملامح الأوطان؛ لتبدأ اللبنات الأولى للهوية في التشكل، من خلال الفنون واللغات وتتضح القناعات والإنتماءات؛ ممهدة الطريق لمزيد من المعرفة والإبداع الذي يهذب سلوكه وتعاملاته وطرق تفكيره.
وكلما كانت الثقافة صادقة ونابعة من وعي حقيقي ورغبة جادة في التنوير، كلما كان المنتوج الثقافي أكثر تنوعا وإبداعا وقدرة على التأثير في الثقافات الأخرى والانفتاح عليها، يتفاعل معها ويضيف إليها. يؤثر ويتأثر دون التخلي عن سماته وخصائصه، متحديا الجمود والإنغلاق ومسافرا إلى آفاق تعبر الحدود والقارت، لا تتعثر ولا تنكفئ على نفسها.
وقد يحاول من لا يملك الإرث الحضاري الحقيقي، أن يفرض ثقافته بتزينها وإلباسها رداء الحرية والتقدم وإعطائها أسماء براقة لا تتوافق مع جوهرالمسمى؛ فيبالغ في تجميل القناع ليخفي وراءه أهدافا شيطانية لطمس الهويات والتشكيك في الثوابت وانتزاع الفرد من جذوره حتى يذبل ويتوهم في نفسه الضعف مما يجعله آيسا من المقاومة والصمود في مواجهة رياح التغييب المسمومة.
نجد مفاهيما كالعولمة؛ تستهدف الثقافة بعمومها. بدعوى توحيد العالم في منظومة ثقافية موحدة تتطابق في الفكر والقيم مع الثقافة الأمريكية؛ متجاهلة بذلك؛ الحضارات المختلفة التي انحدرت منها شعوب العالم والتي تسبق في وجودها من دعا إلى هذا المفهوم الجديد بآلاف السنين. بل هو أول من استفاد من هذه الحضارات المختلفة في محاولة جادة لاحتكارها، بسرقة عقول النابهين والعباقرة حول العالم؛ عن طريق المنح والهجرة والتجنيس وتمويل البحث العلمي في فروع بعينها، ثم نسب هذا التقدم إلى نفسه وشكل منه حضارة مخلقة بملامح جاذبة لكنها تفتقر إلى الجذور والأصالة.
ونتيجة ذلك أن خلقت مسوخا مستنسخة في حضارة مراهقة تدعي التحرر والثورة على الأفكار البالية التي تعيق التقدم، لكنها في حقيقتها؛ ماهي إلا الإمبريالية في صورة منمقة، لفرض وصاية وسيطرة على الشعوب الأضعف؛ من أجل تغذية الأسواق العالمية بمتطلباتها وفقا لقوانين تسنها هي لتحقيق مصالحها ولوعلى حساب الآخر الذي سُلب القدرة على الإنسلاخ أو حتى الاعتراض.
وها هي قد تخلت عن أسلحتها التقليدية واستبدلتها بأخرى ثقافية وفكرية؛ فرضتها على الجميع ليسهل تطويعهم وتسخيرهم للعمل من أجلها والتصرف كتابع مخلص لها، ليئدون في النهاية ذواتهم نيابة عنها ويصفقون لأنفسهم معتقدين أنهم يفعلون الصواب، فتتحقق لها سياستها التوسعية بالسيطرة على الطرق الدولية الهامة، وأماكن تمركز الموارد الطبيعية؛ بأقل مجهود وأقل تكلفة.
ولو علمت الشعوب مكامن القوة بها؛ وتشبثت بعناصر الحضارة التي رسخها أسلافهم على مر العصور، لأُحبطت المخططات المرسومة وفشلت المؤامرات المحاكة، ولذهب ما أنفقه هؤلاء من تريليونات الدولارات أدراج الرياح.
ودور الحكومات هو وض الإستراتيجيات التي تستهدف زيادة الوعي، وتنمية حس التنبؤ بالمؤامرات لتفكيكها ووأدها في مهدها على كافة المستويات التي تساهم في تشكيل الوعي الجمعي وعلى مستوى الأفراد، بل وتدشين المشروعات الواعدة لإشراك الشباب في المحافل الثقافية والتنموية المختلفة، وخلق الآليات التي تخدم هذه الأهداف وتدخلها حيز التطبيق.
ولمصر تجربة رائدة في هذا الشأن؛ من خلال إطلاق منتدى شباب العالم؛ وهو المنصة الأكبر التي تضم شبابا من جميع أنحاء العالم؛ يلتقون في هذا المحفل الثقافي الثري؛ لتعزيز الحوار المفتوح بين الثقافات والحضارات المختلفة، عن طريق عقد الجلسات والورش وأنظمة المحاكاة لأداء المنظومة العالمية بمؤسساتها وهيئاتها؛ مستهدفا تفريخ كوادر شبابية قادرة على إدارة العالم من خلال دولهم، على أسس حقوقية وقيمية سليمة، بدلا عن إلتقائهم في ميادين الحرب أوتبادلهم للأفكار السوداوية المغلوطة.
ويعد استخدام وسائل التواصل في شتى الأنشطة والمجالات؛ ضرورة يحتمها العصر بسرعته واتساعه وتنوع فنون المعرفة به؛ بعد أن أصبح الاعتماد عليها في تزايد مستمر؛ حتى أنها استطاعت أن تسحب البساط من الوسائط الأخرى يوما بعد يوم.
مع تخطي عدد سكان العالم حاجز 8 مليارفي 15 نوفمبرمن عام 2022، ووجود أكثر من 5 مليار مستخدم للإنترنت حول العالم اليوم.
ورغم أن هناك ثم أهداف من أجلها أنشئت وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة؛ كفيس بوك وتويتر ويوتيوب وواتساب وتليجرام وغيرها؛ لتكون عينا على العالم؛ يُجند كل من يرتادها نفسه طواعية لبث ما تحتاجه مخابرات العالم من إحصائيات ودراسات، إلا أنها أصبحت لايمكن الاستغناء عنها والاستفادة منها في العديد من المجالات كالتسوق الرقمي والخدمات البنكية والإدارية وتسيير العمل والدراسة والبحث. وازداد عدد مستخدمي منصات البث الرقمية مثل نت فليكس و شاهد وديزني بلس وغيرها. وكان لها الدور الهام خلال عمليات الإغلاق وقت جائحة كوفيد-19.
لكن إلى جانب ذلك؛ كان لها أثرا إضافيا سلبيا على المستوى الثقافي والإجتماعي؛ فتغيرت العادات والتقاليد وارتدت المبادئ السامية وحلت محلها دعوات التطرف والإلحاد والفوضوية والشذوذ. كما شهدت اللغة انحدارا ملحوظا ونشأت لغات مكتوبة هي خليط غير متجانس من حروف وأرقام.
واللغة من أهم معالم الثقافة، وأحد وسائل التعبير عنها؛ والتي يفرزها المكان بمناخه وتضاريسه ومخلوقاته؛ لتتخذ من حدوده وطنا، وهي قادرة على أن تعبر الحدود لتتداخل وتتفاعل مع مجتمعات أخرى قد ترحب بها وتذوب فيها وتمتصها لتفرز أنماطا من التزاوج الفكري والثقافي الفريد؛ وقد ترفضها و تقاوم إنصهارها وتتشكك في أهدافها درءا لطمس هويات تتوقعه.
الفريد في الأمر، أن اللغة تمتلك إرادة تأبى إلا أن تقول كلمتها، مهما حاول البعض تشويهها، فلن يحدث ذلك، ومادام لها شعوبا تتمسك بها وتفخر بالتحدث بمفرداتها ومضمانيها ومعانيها وتظهر هويتهم في حروفها وكلماتها وجملها. ومهما حاولوا الإنغلاق على أنفسهم، فلن توصد اللغة أبوابها في وجه العابرين سواء طرقوا هذه الأبواب بلطف أو إقتحموه بكل صلف.
والصراع بين اللغات الحية قائم لزيادة عدد مستخدميها وانتشار متحدثيها حول العالم بإظهارمرونتها في التفاعل مع اللغات الأخرى وقدرتها على استيعاب الميادين المختلفة وجميع أنواع العلوم . لكن مهما تصارعت اللغات؛ وكانت صراعاتها ناعمة أو مدججة بالخطط والمؤامرات لفرضها على الآخر، فلن يخسر إلا من تآمر، وستكون الإنسانية هي الفائز في النهاية؛ ببث الحيوية والديناميكية بإرثها ومخزونها الثقافي.
فالنازحون، الوافدون، الزائرون، أو حتى المحتلون؛ مهما إختلفت المسميات؛ كل هؤلاء سيؤثرون ويتأثرون بلغة القوم. فلكل منهم بصمته التي سيتركها في لغة الآخر، وستمتلئ قواميسهم ومعاجمعهم وفنونهم المختلفة ومنتوجاتهم الأدبية؛ بدلائل إندماج لغاتهم وثقافاتهم. وعلى المستوى التطبيقي ستنشط الذائقة لاستيعاب جرس الكلمات والانبهار بموسيقاها الداخلية؛ حتى وإن لم تكن تفهم معانيها، ستكون أشد حرصا على إثراء العقل والوجدان بفهم المراد عن طريق الترجمة.
إن اللغة عالم يعيش فيه الضمير الإنساني. شاهدا على التاريخ ومسجلا لأحداثه، لاتحده حدود ولا تعيقه الجبال الشاهقات، وهي أعظم ما أنتجته الإنسانية من وسائل التواصل، وإخراج مكنونات النفس من المشاعر والأفكار، وأحد محددات الثقافة والهوية لكل الشعوب.
التعليقات