كان دائما ما يثير فضولي رؤية هواة الفنون، حيث كنت أظن أن كل فن هو مجال مختص بذاته، فيكون من يحب الأدب يحبه فقط، ومن يحب الموسيقى يحبها فقط، ومن يحب السينما والمسرح يحبهما فقط، ومن يحب الرسم يحبه فقط، ولكني وجدت أن أغلب محبي الفنون يحبون كل الفنون، وكأنهم خلقوا بحواس قوية قادرة على استنباط ما وراء كل الفنون من جماليات من مشاعر ومهارات.
بل ذهب الأمر إلى أكثر من ذلك، فتجد من احترف فنا ما قادرا على الاحتراف في أغلب الفنون الأخرى بعد امتلاك أدواتها الأساسية فقط، فتجد الأديب ممسكا بالكمان على كتفه وعيناه على ألوان الطبيعة متأملا لجمال خلق الله والبشر ولكل لوحاته الخاصة من صنع يده، وعقله هائما في خياله لرسم خيوط عمله الأدبي الجديد، وكل هذا وهو على أتم الاستعداد ليترك نفسه ليُساق بكل جوارحه في تفاصيل رقصة مضبوط إيقاعها، أو فيلم برع مخرجه في تقديم فكرة هادفة باستخدام ممثلين محترفين، أو مسرحية تجمع كل الفنون السابق ذكرها، فيبقى المسرح أبا الفنون وأولها.
استمرت حيرتي حتى توصلت إلى الحقيقة وهي أنها كلها فنون .... وتصلح الفنون بصدق المشاعر والأمانة في التعبير عنها، فإن منّ الله عليك بتلك النعمة، تستطع أن تبرع في كل الفنون، وبدونها لن تصبح فنانا مهما حاولت، وقلت تصلح وليس تكمل، لأنه من الواقعي امتلاك بعض الأدوات الأساسية، فلا يمكن أن تصبح رساما وأنت لا تعرف كيف تمسك ريشة، ولا يمكن أن تصبح عازفا وأنت لا تعلم كيفية العزف على الآلة، ولا يمكن أن تصبح أديبا وأنت غير مُلم بقواعد اللغة التي اخترتها لتسخر قلمك لها.
ولم أقف عند صدق المشاعر، وأكملتها بالأمانة في التعبير عنها، فما لشيء قدرة على إتلاف الفنون أكثر من المبالغة على ما استقبلته من مشاعر، فعلى قدر ما أخذت امنح. صحيح أن إليسا ارتقت بإحساسها حتى فاقت كل قديم وجديد، ومن بينهم ميادة الحناوي التي اشتهرت بإحساسها العالي، ولكن الاثنتين عبرا عن مشاعرهما فقط بلا أي مبالغة فلاقا النجاح والمحبة في قلوب مستقبلي فن الغناء من الجماهير، على الرغم من اختلاف درجة الإحساس.
تأتي النظرة الأولى على هواة الفنون ومحترفيها بالحسد، يُقال عنهم حالمون هائمون في خيالهم بعيدا عن أي واقع مؤلم، ولكنها رؤية ظالمة، فما أصعب رؤية الواقع من خلال الفنون! ما أصعب معرفة حب الوطن من الشعر! ما أصعب معرفة التاريخ ووقائعه المؤلمة في رواية أو على مسرح! وما أصعب معرفة الحب وعذابه من الغناء! وما أصعب الحياة على أولئك الهائمين حيث يتخلون عن أغلب أحلامهم آخذين الطريق الواقعي رغما عنهم لأنه الصحيح! فما أقسى ألمهم!
التعليقات