مررت صدفةً بمشهد من مسلسل "الأيام" والذي يجسد قصة حياة عميد الأدب العربي طه حسين، من بطولة الفنان أحمد زكي، وكان مشهد لطه وهو طفل؛ يبكي حزنا وغضبا أو اعتراضا والعياذ بالله، بسبب علته بعدما قام زملاؤه في الكتَّاب بالاستهزاء به واستغلال عجزه بوضع حشرة على رقبته، فبدأ يستغيث صارخا بما حدث؛ لأنه عاجز عن مساعدة نفسه، ويذهب المشهد إلى منزله وهو يروي ما حدث باكيا لأمه وإخوته، ولم ينل سوى كلمات المواساة الأقل من العادية، ثم قدمت له والدته الطعام مع ملعقة وهو غير معتاد عليها، ليصرخ باكيا من جديد، يلومهم جميعا حيث ظن تعمدهم الاستهزاء به، وحاول أن يأكل وحده ولم يستطع .... وانتهى المشهد وقد ملأت الدموع عيناه وعيناي.
كيف تحمل هذا الطفل الصغير كل هذا الألم؟ كيف تخلص من يأسه وخرج من قوقعته إلى النور الذي لا نراه نحن المبصرون؟ كيف استطاع مسامحة والدته التي تسببت في فقدانه لبصره وإن كان عن جهل منها لا عن قصد؟ أو هل حقا استطاع مسامحتها؟!
يتخطى الإنسان يأسه لتحقيق آماله في الحياة، لإيجاد هوية ذاته بعمقها وسطحيتها، ولكنه لم يستأثر بهذا لنفسه فقط، بل عمل على مساعدة الكثيرين في فهم ذواتهم وتحقيق آمالهم؛ بمد أفقهم إلى المجهول.
ولم يخرج عن المألوف بل حطمه، قرأ وهو لا يستطيع القراءة، كتب وهو لا يستطيع الكتابة، أخذ من الشهادات العلمية ووصل إلى مستوى فكري يجبرك على احترامه وتقديره وإن لم تفضل أسلوبه الأدبي.
من الصعب إيجاد إنسان وصل إلى مرحلة الشباب بلا ضغائن ترسبت في نفسه منذ الصغر، يحاربها وتحاربه طوال فترة فشله، فلا يبدأ الإنسان في السير بخطوات ثابتة على طريق النجاح إلا بعد التخلص من كل ضغينة وكره، ولوم تجاه أي شخص وخاصة والديه، فإن لم يكن قد غفر لوالدته ذنبها، لما أصبح "طه حسين".
صعب ما مر به، ولكنه ليس بالصعوبة التي نراها نحن من مكاننا هذا، لأننا نرى التجربة بصعوبتها وننسى رحمة الله بعباده، فكيف كانت رحمته على طفل فقد بصره بسبب الجهل، لقد أحاطت رحمته كل شيء، فالرحمة وإلهام الصبر والسلوان نعمة، أخذت بيد الطفل العاجز إلى رحاب العلم والنجاح والاستقرار، مثلما أخذت بيد الطفل اليتيم إلى رحاب الله حتى أصبح حبيب الله ورسوله "عليه أفضل الصلاة والسلام".
فأين نحن من تلك الصعاب؟ وأين نحن من هذا الصبر النقي؟ فاللهم ألهم الشعب الفلسطيني الصبر والسلوان وخذ بأيديهم نحو النجاة، فلم نعتد منك سوى كل الحب والرحمة.
التعليقات