في محاورات "أمام العرش" لنجيب محفوظ يستدعي حورس الزعيمَ الوطني مصطفى كامل، ويهتف: مصطفى كامل. فيدخل شاب ممشوق القامة، عذب الملامح، ومضى عاري الرأس، حافي القدمين، حتى مثُل أمام العرش.
ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: بلغتُ الوعي وأنا تلميذ في عصر الاحتلال البريطاني؛ فكرهتُه وصممتُ على محاربته، وشرعتُ في ذلك وأنا تلميذ، وزارنا في المدرسة جناب الخديوي عباس الثاني؛ فاستقبلتُه بخطبة وطنية حماسية استجابتْ لها وطنيته وشبابه، وتوثقتْ بيني وبينه منذ ذلك اليوم علاقة وثيقة؛ فمضى يمدني بالتشجيع والمال للتخلص من الاحتلال، واستوتْ علاقتي على نفس النهج مع الخليفة والجمعية الإسلامية، أما قبلتي في جميع الأحوال فكانت استقلال مصر وحريتها، من أجل ذلك تغيَر موقفي من الخديوي عندما اتفق مع الاحتلال، وكانت حال الشعب لا تبعث على الأمل، ولكني لم أقصر في إيقاظِ وَعْيه الوطني بالكلمة في الصحف والخطابة، كما قمت بالدعاية لقضية وطني في الخارج حتى عرفها الأحرار في أوروبا، وخاصة فرنسا، ولما ارتكب الإنجليز جريمتهم الكبرى في دنشواي استنكرتُ أعمالهم الوحشية ونددتُ بالأحكام التي أصدرتْها المحكمة الزائفة على أهل القرية الأبرياء، فزعزعتُ عرش طاغية الإنجليز في مصر، حتى اضطَّرت بلاده إلى استدعائه، ثم أسستُ الحزب الوطني، وهو أول حزب سياسي منظَّم أنشيء في مصر، تضمَن برنامجه الجلاء والدستور في ظل الدولة العثمانية، وواظبتُ على الجهاد في الداخل والخارج حتى أسلمتُ الروح في عزّ الشباب.
ويسأله بسماتيك الثالث: ألم يقتلك الإنجليز؟
– هذا عجيب، لقد عاصرتُ الاحتلال الفارسي مثلما عاصرتَ الاحتلال الإنجليزي، مثلك حاولتُ إيقاظ الوعي الوطني، ولما علم قمبيز بأمري قتلَني دون تردد، فكيف تركك
الإنجليز دون عقاب؟
فقال مصطفى كامل: كان الاحتلال قد تمكَّن من دعم سيطرته الكاملة على البلاد؛ فلم ير بأسًا من منح معارضيه شيئًا من الحرية، استهانةً بهم في الواقع، وتظاهًرا أمام العالم باحترام القيَم.
- ألم تتعرض لأذى ملموس؟
– أضمر لي الكراهية وحرَّض أصدقاءه على مهاجمتي.
وحينما يعلق بسماتيك على أن مصطفى كامل لم يُنف كما نُفي عرابي، يرد عليه كامل قائلا: أحمد عرابي خائن جرَّ على بلاده الاحتلال!
فيقول له أبنوم: كيف تتهم الرجل بالخيانة، وهو ما ثار ونُفي إلا دفاعا عن شعبك!
فقال مصطفى كامل بإصرار: إني أعتبره المسئول الأول عن الاحتلال!
فقال أبنوم: إنك شابٌ وطنيٌّ متحمس، صادق النية، سعيد الحظ، عشت حياتك في جو معبَّق بأبهة العرش والخلافة والحضارة الفرنسية، لم تشم رائحة العرق الكادح، ولم تكابد آلام الجهاد الحقيقية، ولم تتورع عن النَّيْل من الثائر الحقيقي!
وهنا تقول إيزيس عن مصطفى كامل: إنه الابن الذي أيقظتْ حماستُه الوجدانَ الوطني بعد أن كان الاحتلال يُخمد أنفاسه.
وقال أوزوريس: لم يكن بوسعك أن تفعل خيًرا مما فعلت، ولن يُنسى فضل كلماتك، فاذهبْ إلى محكمتك مصحوبًا بدعواتنا القلبية.
ولعل موقف مصطفى كامل من أحمد عرابي، في محاورات نجيب محفوظ، يشبه موقف أمير الشعراء أحمد شوقي من عرابي، خاصة أنه كانت هناك صداقة حميمة جمعت بين الزعيم الوطني وأمير الشعراء، تبدَّت في أكثر من موقف وأكثر من لقاء. فمنذ لقائهما في فرنسا توطدت الصداقة بينهما، وخلال تلك الأيام أقامت "جمعية التقدم المصري" في باريس، حفل تعارف بين أعضائها، حضره مصطفى أفندي كامل، محرر جريدة "المدرسة" الغرَّاء. وقال مخاطبًا أعضاء الجمعية المركزية في فرنسا التي كان شوقي أحد أعضائها:
ليت الكواكبَ تدنو لي فأنظمها ** عقودَ مدحٍ فما أرضى لك كلمي
توالت أعداد مجلة "التقدم المصري" التي كانت تصدرها الجمعية، تحكي قصة نجاح الجمعية وأعضائها في المجال الوطني، وفي مجال الدراسة، وتحكي عن اجتماعات الجمعية المركزية، وحضور مصطفى كامل بعض هذه الاجتماعات أثناء وجوده بفرنسا، وقد لفت الأنظار إليه وتوطدت الصداقة بينه وبين شوقي، لدرجة أنه كتب ذات مرة لمحمد فريد يقول له: "وإذا قابلت شوقي فقبله لي مرتين، وقل له أن يرسل ما طبع من ديوانه مع صورته، وأعطه عنواني".
كان مصطفى كامل يعجب بشعر شوقي ويصفه بأنه "الغدير الصافي في ألف الغاب، يسقي الأرض ولا يبصره الناظرون"، وكان يخصص لقصائده أسمى مكان في جريدة "اللواء".
وقد بقيت هذه الصلة قوية لم يُضعف من قوتها الجفاء الذي رنق بينه وبين الخديوي عباس، إذ جنح الخديوي إلى سياسة الموادعة والوفاق مع السير إلدون غورست الذي خلف لورد كرومر (المندوب السامي البريطاني)، ولم يرتض مصطفى هذه الموادعة، وأعلن سخطه في كتاب شديد اللهجة وجهه إلى الخديوي، ونشره في الصحف، وقطع علاقته بعباس. وهو ما أشار إليه نجيب محفوظ في المحاورة السابقة.
وفي رسالة عتاب من أحمد شوقي للزعيم محمد فريد الذي اتهم شوقي في وطنيته قال شوقي: وطنيتي، كل وطنيتي أيها الرئيس الكريم في هذه الشهادة من سلفك العظيم، وإليك الحديث: عدتُ فقيد الوطن المرحوم مصطفى ذات ليلة وهو محتضر، لا يأتي ولا يذر، وكان بحجرة نومه شقيقه ووارث عواطفه ومبادئه الأخ علي بك وثلاثة من كرام الأصدقاء، وكنت قد قمت للفقيد بخدمة أراها أنا لا تذكر، واعتبرها هو أنها لا تصدر إلا عن أوفياء الرجال وشجعانهم، فسر خاطره، وانشرح صدره، وامتد بنا السهر إلى ما بعد منتصف الليل، حتى إذا استأذنا من المريض الكريم، قال لي بمسمع من الأخوان الأربعة: هكذا فليكن الرجال، وهكذا فلتكن الوطنية، والموت حق، والحق ما يقوله المحتضرون.
ويؤكد أحمد محمد الحوفي - في كتابه "وطنية شوقي" - دراسة أدبية تاريخية مقارنة. (مكتبة نهضة مصر. القاهرة 1955) - أن شوقي كان وثيق الصلة بمصطفى كامل، فهو يدين بما يدين به صديقه، وبما يدين به الحزب الموالي للخديوي عباس.
وبعد وفاة مصطفى كامل رثاه شوقي بثلاث قصائد، منها قصيدته التي يقول فيها:
المَشرِقانِ عَلَيكَ يَنتَحِبانِ ** قاصيهُما في مَأتَمٍ وَالداني
يا خادِمَ الإِسلامِ أَجرُ مُجاهِدٍ ** في اللَهِ مِن خُلدٍ وَمِن رِضوانِ
لَمّا نُعيتَ إِلى الحِجازِ مَشى الأَسى ** في الزائِرينَ وَرُوِّعَ الحَرَمانِ
أقسمتُ أنك في الترابِ طهارةً ** مَلَكٌ يَهَابُ سؤالَه الملكانِ
وهنا يذكر د. شوقي ضيف – في كتابه "شوقي شاعر العصر الحديث". (مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 2010) - أن شوقي لم يسارع إلى رثاء مصطفى كامل فور وفاته، لأن كامل كان قد قطع علاقته بالخديوي عباس، فتلكأ شوقي قليلا عن بكائه، ثم ثاب إلى صوابه، وكتب أجمل مراثيه فيه.
أما عبدالرحمن الرافعي - في كتابه "شعراء الوطنية" (مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة 2017) - فيرى الانسجام بين دعوة مصطفى كامل وشعر شوقي في كثير من قصائده، مثل قصيدة شوقي في وادع اللورد كرومر سنة 1907 حين اضطر إلى الاستقالة على إثر حادثة دنشواي، وقصيدته في ذكر دنشواي سنة 1907، وقصيدته في رثاء مصطفى كامل نفسه سنة 1908، بقصيدة خالدة تُعد أكبر مرثاة في تاريخ الأدب العربي، وقد نُشرت في 23 فبراير سنة 1908 عقب وفاة الزعيم بثلاثة عشر يومًا. ثم أحيا ذكراه بعد ذلك في أكثر من قصيدة.
ويذكر حسين ابن أحمد شوقي - في كتابه "أبي شوقي" (مكتبة النهضة المصرية. القاهرة 1947) - أن أباه كان مع مصطفى عندما اختار شعارًا له جملته الشهيرة: "لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة". وكان مصطفى قد وجد الجزء الأول منها أي "لا حياة مع اليأس" فأشار عليه أبي أن يضيف: "ولا يأس مع الحياة". وكان أبي يعاونه في كفاحه الوطني المجيد، وقد أشار إلى ذلك في قصائده.
غير أن ماهر حسن علي - في كتابه "أحمد شوقي" (الصادر عن وزارة التربية والتعليم. القاهرة عام 1973) - كان يرى أن لشوقي هفوات لا شك في ذلك، ولكن الهفوة التي كلَّما ذكرها أحس بالندم والضيق يستبدان به، كانت مع أحمد عرابي عندما عاد من منفاه عام 1901 وكان أشد الناس قدحًا له مصطفى كامل وجريدة اللواء والحزب الوطني، وقد جاراهم شوقي فكتب ثلاث قصائد هاجم يها عرابي. ولكن ألم يكن لعرابي روحه الوطنية الطموحة؟ لذلك قرر شوقي ألا ينشر هذه القصائد في ديوانه عندما يطبعه.
أما مصطفى كامل باشا (1874 - 1908) فهو زعيم سياسي وكاتب مصري. أسَّس الحزب الوطني وجريدة اللواء. كان من المنادين بإنشاء (أو إعادة إنشاء) الجامعة الإسلامية. وكان من أكبر المناهضين للاستعمار وعُرف بدوره الكبير في مجالات النهضة مثل نشر التعليم وإنشاء الجامعة الوطنية، وكان حزبه ينادي برابطة أوثق بالدولة العثمانية، أدَّت مجهوداته في فضح جرائم الاحتلال والتنديد بها في المحافل الدولية خاصة بعد مذبحة دنشواي التي أدَّت إلى سقوط اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر.
توفي عن عمر يناهز 34 عامًا، ورغم أنه عاش ثماني سنوات فقط في القرن العشرين فإن بصماته امتدت حتى منتصف القرن. تسببت وفاته في حالة كبيرة من الحزن الشعبي، وحضر جنازته مئات الآلاف الذين اعتبروا كامل بطلهم. وقد صار ضريح مصطفى كامل (الذي بني بين 1949-1953) بالقرب من قلعة صلاح الدين الأيوبي على الطراز المملوكي الجديد مفتوحًا للجمهور كمتحف، ويحتوي في غرفة جانبية على عرض لتذكارات تتعلق به.
التعليقات