اصطحبت السيدة فاطمة ابنها نجيب محفوظ في زيارات تاريخية للأهرام وأبوالهول والمتحف المصري، فرأى حجرة المومياوات، وكل الآثار الفرعونية والإسلامية والقبطية، خاصة دير مار جرجس "فكلهم بركة وسلسلة واحدة". كانت أمُّه تتمتع بحرية نسبية، بعكس ما تبدو عليه "الست أمينة" في الثلاثية التي لم يكن مسموحًا لها بالخروج إلا بإذن من أحمد عبدالجواد.
كانت الأمُّ – رغم أميتها - منبهرةً بهذه الآثار وكانت تعشق الماء والخضرة، فوهبت ابنها حب النيل فعرفه خير معرفة، فكان معشوقه، وتكوّن لديه أول مخزون ثقافي. كانت أمه من الذكاء في اختيار هذا الأسلوب ليعبرَ الفتى محفوظ فرن المراهقة بأمان، فلا يشغل باله البنات وقدودهن وأجسادهن، وما يتراءى للشباب أثناء تلك الفورة، فلفتته لأشياء أخرى أحبَّها جدا، وعشقَها. دفعته لكي يقرأ كثيرًا ليعرف لغز الحضارة المصرية القديمة، ويحكي لها عما اقرأه.
لقد استفاد من أمِّه حنانًا كان يذكره ويشعر بدفئه دائما. وكان تأثيرُها عليه قويًّا جدا، أكثر من والده، لأنها كانت باستمرار معه رغم أنها فارقت الحياة ومحفوظ في الخمسينيات من عمره، وحزن كثيرًا لفقدها. كانت تطلق عليه "أبو التفانين الرايق"، وتشتري له الكتب النادرة من الأزهر عندما لاحظت ميله للقراءة والاطلاع.
وكانت أمه تحظى بمكانة وحضور كبيرين بين الأهل والأقارب والجيران، وتفهمت طريقته واختياره والأسلوب الذي تزوَّج به حتى لا يشعرها بالحرج.
أما والده - عبدالعزيز إبراهيم الباشا - فكانت له قدرة غريبة على الجلوس في حالةِ صمت تام وتأمُّل لساعات طويلة. ويتذكر نجيب محفوظ أن والده اصطحبه وهو في سن 9 سنوات لقضاء أجازة الصيف في الإسكندرية، في ضيافة صديقه محمد بك عمرو، وله سرايا كبيرة في سان استفانو (في حجم ميدان بيت القاضي، وفي ارتفاع القلعة، ولها حديقة مثل حديقة الحيوان). ومن يومها وقع صاحب "ميرامار" في حبِّ الإسكندرية.
وفي القاهرة كان والده يصطحبه إلى مسارح روض الفرج الشعبية، وهناك استمع إلى سيد درويش وبدأ تعارفه الحقيقي عليه في تلك المسارح التي ظلَّ يتردد عليها بانتظام.
أما علاقة الوالدين بالسينما، فقال نجيب محفوظ عن والدته إنها لم تدخل السينما سوى مرة واحدة في حياتها لتشاهد فيلم ""ظهور الإسلام" بعد أن وصل إلى مسامعها أن من يشاهد هذا الفيلم يكون بمثابة من ذهب لأداء فريضة الحج، وبما أنها لم تتمكن من الحج فقد ذهبت لمشاهدة الفيلم.
وعقب نجاحه في البكالوريا عام 1930 (تعادل الثانوية العامة الآن) بمجموع 60 % (وكان مجموعًا كبيرًا في ذلك الوقت) من مدرسة فؤاد الأول الثانوية، حصل على مكافأة من والده قدرها عشرة جنيهات، لقضاء إجازة الصيف في الإسكندرية، فعارضتْ أمه، وأُصيب عمه بالذهول وقتها لضخامة المكافأة (حيث كان مرتب الموظف الحاصل على البكالوريا لا يزيد على ستة جنيهات)، وعاتب والده بشدة، لأنه عندما يتوظَّف لن يحصل على مثل هذا المبلغ.
ويعترفُ محفوظ أنه استفاد من أمِّه حنانًا وكان تأثيرها عليه قويًّا جدًّا، أكثر من والده، لأنها كانت باستمرار معه. لكنه تزوَّج سرًّا، في شقة شقيقه "محمد" وأخفى خبر زواجه عن والدته فاطمة، بناء على نصيحة أخيه وأخته إشفاقًا عليها، خاصةً أنها قطعتْ شوطًا كبيرًا في الإعداد لزواجه من قريبة لها ثرية جدا. لهذا أخفى عنها الخبر، وحرص على أن تعلم بالتدريج خطوة خطوةً، حتى علمتْ في النهاية، وتوافقتْ مع زوجته عطية الله إبراهيم.
ويقول صاحب الثلاثية إن جارَهم عمّ بشير (اللبناني) هو الذي زوّد وجدانه ببذرة "السيد أحمد عبدالجواد"، بالإضافة إلى والده وأخيه.
لم يمنعه والده من الاشتراك في المظاهرات أثناء وجود سعد زغلول، كان محفوظ صغير السن وقتها، ويرى أن الاشتراك في المظاهرة أمتع من أي شيء في الدنيا، بشرط ألا يشترك فيها الإنجليز، كما قال والده. وقد رأي الطفل نجيب أباه يبكي وأمه تبكي بجواره، وحين خرج إلى الشارع وجد أن البلد كلها تبكي على موت سعد زغلول، فكان أكبر حزن في حياته.
وعند دخوله المرحلة الثانوية التحق بالقسم الأدبي على غير رغبة والده، ثم التحق بكلية الآداب قسم فلسفة على غير رغبته أيضا. لكن هذا لم يصل إلى مرحلة الجفوة والخصام بينهما.
وعندما شبَّت العاطفة بينه وبين إحدى جاراته، تعاهدا على الزواج، وكانت أمُّها صاحبة الاقتراح عندما رأت الحبَّ يشبُّ بين الصغيرين، فقال والده: إنه شرف كبير، ولكنهما لم يبلغا الثالثة عشرة من عمرهما. وعندما فكرتْ أمُّها في الأمر قالت لها: إنه من سنك فلا يصلح لك.
وعندما رأت أمُّها شدة تعلق ابنتها بالفتى، وشدة تعلقه بها، سألت: والعمل؟ فرد والده: لا سبيل إلا الانتظار حتى يتم تعليمه، ثم له أن يتزوج بعد ذلك. سألت الأم: وما مدى هذا الانتظار؟ فقال الوالد: عشرة أعوام على الأقل. ولكنْ هاجرتْ أسرة حبيبته فجأة وتركتْ حي العباسية كله إلى مكان مجهول، فبدأ الطفل يعاني لأول مرة في حياته عذابات الحرمان والهجر، حتى التقاها في الإسكندرية بعد حوالي أربعة وأربعين عاما، وكان الحب ذكرى عزيزة.
وعندما أصبح صاحب "زقاق المدق" موظفًا كان والده يظن أن ابنه وقد أصبح موظفًا في الفترة الصباحية عليه أن يستمتع بوقته خارج المنزل في الفترة المسائية، كمثل معظم الأفندية في ذلك الوقت، لكنه كان يلاحظ مكوث الابن طويلا على مكتبه بالبيت، وكأنه لا يزال طالبًا، فكان يقول له: كأنك لم تتخرَّجْ، أراك جالسًا إلى المكتب ليلا ونهارا، أقول لك هل ستحصل على الدكتوراه؟ تقول لي: لا. إذن لماذا تُرهق نفسك؟
كان والده يرى أن ابنه ينفق وقتًا طويلا في القراءة والكتابة. أما إحساسه هو فإن الزمن محدود، وفي الوقت نفسه يريد أن يقرأ في الأدب، في العلم، في التاريخ، في الفن، يريد أن يستمع إلى الموسيقى، ويكتب.
وقد فوجِئَ يومًا بعد أن خرج للحياة الوظيفية أن والده يطالبه بالمشاركة في تحمل مصروف البيت، بعد أن كان سعيدًا للغاية براتبه الشهري إلى أن طلب والده المشاركة، قائلا: أنا لن أعيش للأبد، أحبُّ أن أطمئن على والدتك، ولذا يجب أن تسهم في مصروف البيت. ويبدو أن الوالد كان يحس بدنو أجله، فقد بدأ يشكو من متاعب في القلب، كما كان مريضًا بضغط الدم، مما أثَّر على قلبه، وفي يوم وفاته عام 1937 (عن 65 عاما) أُصيب بنزيف في المخ قرب الظهر.
يقول نجيب محفوظ: أقبل الليل قبل موعده، وأسلم الروح في منتصف هذا الليل – قبل أن يقرأ روايتي الأولى "عبث الأقدار" - وكانت تجربة هائلة مع الموت، وكان مصابي في إنسان عزيز جدًّا على نفسي.
التعليقات