كنت أجلس مع صديقة فرنسية الأب هولندية الأم تتحدث الإنجليزية بطلاقة بالإضافة للغاتها الأصلية لغة الأب ولغة الأم. كنا نتحدث بالإنجليزية وهي اللغة المشتركة التي جمعتنا مع بقية الصديقات من بلاد مختلفة. تعددت خلفياتنا العرقية وجنسياتنا لكن جمعتنا لغة مشتركة استطاعت مد جذور التواصل بيننا.
طال بنا المقام وتشعبت الأحاديث وإذ بصديقتي الفرنسية توجه لي الكلام وحدى دون كل الحضور بالعربية قائلة (لقد مزق هذا الموقف نياط قلبي). ضحكت متعجبة ومنبهرة بقدرتها على انتقاء التعبير الفصيح الملائم لمقصدها من لغة حديثة العهد بها. ثم نظرت للباقين معتذرة عن الحديث بلغة لا يفهمونها قائلة لهم أنها لا تجد من بين اللغات الثلاثة التي تتقنها ما يكافيء هذا الوصف. بدأت صديقتي في تعلم اللغة العربية منذ ست سنوات وأذهلتها مفرداتها المتشعبة الشاملة الجامعة كما أذهلتني سرعة استيعابها للغة مختلفة اختلافا جذريا عن مجموعة اللغات الجرمانية التي تتقنها نطقا وكتابة.
تعجبت من سلاسة استيعابها ومرونة لسانها وتحول بنا مسار الحديث جميعا عن اللغات واللغة الأم وأهمية الاعتزاز بها لأنها تكون ما عليه كل فرد. شكت لنا صديقة أخرى ألمانية الجنسية وزجها مصري وتعيش في مصر أن ابنتها ذات الأربعة أعوام لم تنطق كلمة واحدة منذ ولادتها. بعد الفحوصات اللازمة للطفلة سمعيا وبصريا تبين أن البنت مضطربة الهوية تسمع ثلاث لغات في البيت على قدم المساواة ولكنها لا تعلم أي اللغات عليها أن تبدأ بها في الكلام. الأب والأم يتحدثان بالألمانية والأهل يتحدثون معها ومع الأب بالعربية بينما يتحدثون مع الأم باللغة المشتركة بين الثقافتين وهي الإنجليزية فحدث اضطراب للطفلة الصغيرة! ربما تكون هذه حالة خاصة لم نسمع بها من قبل لكن هذا لا ينفي تأثير البيئة متعددة اللغات على الطفل.
أما إحدى الحاضرات فبريطانية وزوجة لمصري وتعتزم الحياة فيها ألحقت أبناءها الثلاثة بمدارس تدرس كل مناهجها باللغة العربية. أصرت الصديقة أن اللغة الأم لأطفالها هي اللغة العربية لا الإنجليزية لأنها هي لغة الحضارة التي ينتمون إليها ولغة الدين والأهل والبيئة المحيطة. كانت رؤيتها مختلفة عما اعتدنا عليه جميعا في تفسير مصطلح (اللغة الأم) فما نعرفه أنها اللغة التي تتحدث بها الأم مع أولادها وهي لغتهم الأولى التي يكتشفون بها العالم من حولهم ويتعلمون كيف يعبرون عن احتياجاتهم بها. وسط استنكار واستحسان أكملنا جلستنا بين مؤيد ومعارض.
أعجبتني رؤيتها للأمور. ترى أن أولادها عربا يعيشون في مجتمع عربي فلابد لهم من اتقان لغتهم الأم أي لغتهم الأصلية. سيتكلم الأولاد الإنجليزية مع الأم والأهل في بريطانيا لكن يتبقى لهم ما يشكل هويتهم وانتماءهم وما يساعدهم على التفاعل في مجتمعهم بكفاءة وإيجابية. لا مجال في نظرها للتفاخر بلغة يتقنونها دون أن تكون كفة اللغة العربية راجحة في حياتهم. كف يكونون مسلمين ولا يعرفون لغة القرآن الكريم وما روابطهم بالعرب إن لم يقرأوا الشعر ويفهموه؟!
أنصت لكلامها في تفهم تام بل وإعجاب شديد بمنطقها. وعلى الفور تذكرت صديقة مصرية عربية أبا عن جد وجدتها يوما تشرح آيات القرآن لابنها بالإنجليزية! نعم! طفل في العاشرة من العمر لا يستطيع قراءة العربية ولا فهمها دون ترجمة! تحدثه أمه العربية عن رمضان وفضائل الصوم بلغة دخيلة وهي كلها فخر أن ابنها يتقن الإنجليزية بهذه الطلاقة وهو في هذا السن! أي خبل وصلنا له هذا الذي يجعل طفلين عربيين في إحدى الحدائق في وطننا العربي لا يستطيعان اللعب سويا بسبب اختلاف اللغة! شاهدت محاولات الطفل المستميتة للتواصل مع الآخر باللغة الإنجليزية والثاني ينظر إليه في حيرة من أمره فلا هو يفهمه ولا هو يقدر على التواصل معه باللغة العربية حتى ظهرت الأخت الأكبر وتولت التوفيق بينهما!
لقد وصلنا لمرحلة مشينة من التخلي عن لغتنا العربية التي هي أصلنا ومكون هويتنا الأول. الاعتقاد بأن جعل الأولوية في التعليم للغات الأجنبية ظلم بين وتهاون منا. مجرد التفكير في أن لغتنا العربية ليست ذات شأن أو أنها عفى عليها الزمن إن دل على شيء فإنما يدل على انهزامية نفسية وجهل بحقيقة الأمور.
أكتب هذا الكلام وأنا مترجمة أتقن أربع لغات بدرجات متفاوتة أعي تماما أهمية اللغات وأدين لها بالفضل في كل شئون حياتي. لكن لا يعني ذلك أن أتحلل من اللبنة الأولى التي ساهمت في تكويني وعلمتني من أنا وكيف أتفاعل مع من حولي. اللغة هوية ومن يشعر بالدونية والنقصان يسعى لاستبدالها لكنه يظل كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى! ( من تعلم لغة قوم أمن شرهم) فتعلم اللغات أمر مستحب بل ومن الفضائل وهذا دليل على حكمة هذا الدين ونظرته الثاقبة. وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى(ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) فاللغات باختلاف منطوقها ومكتوبها وتعدد مفرداتها وتراكيبها وصورها آية من آيات الله المعجزة لكن مهما تعددت الألسن وتعلم الإنسان اللغات التي تفتح له الآفاق وتذلل الصعاب وتصل البشرية معا تبقى اللغة الأم ثابتة راسخة فبغير الجذور لا يشتد العود!
التعليقات