هل تتغير طبيعة الإنسان؟ حبة قمح خضراء غضة تنتجها أرض خير خصبة ثم يتم تحويلها لمسحوق نفيس يسميه الناس دقيقاً أو طحينا. يتحول هذه الطحين إلى عجين طري رخو سهل التشكيل وفقا لمهارة وخبرة وحرفية من يتعامل معه. من العجينة تشكل المخبوزات بأنواعها وأشكالها منها ما هو بالبيض ومنها ما يضاف إليه الزبد أو الزيت أو الحبوب المتنوعة. تمتليء صواني الخبز العامرة بتشكيلة كبيرة منها ما هو مالح وما هو حلو. تساهم الكثير من العوامل في نجاح أو فشل المنتج النهائي منها ما هو خارجي كحرارة الغرفة والتهوية وما تم إضافته من مكسبات طعم ورافعات ومواد مساعدة للتخمر ومنها ما هو داخلي خاص بطبيعة المادة الخام نفسها. تدخل العجائن الفرن وتتعرض لدرجات حرارة مختلفة وفقا لطبيعة كل منها. تخرج فتفوح منها رائحة شهية فتسر العين والقلب. لكن ربما ينسى الخباز بعض القطع في الداخل فتصبح قاسية بل أكثر قسوة من غيرها وربما تشتد النار على البعض الآخر فتفقد رونقها وجمالها وتتحول العجينة الطرية إلى قطع صلبة وكلما زادت عليها الحرارة زادت صلابتها وتحول لونها من الذهبي الجميل إلى لون متفحم ينفر منه الجميع ويزهد فيه حتى من يتضور جوعاً.
وليس الإنسان وطبيعته البشرية ببعيد عن العجينة الغضة ورحلة حبة القمح الخضراء. يولد بريئا ضعيفاً لين العريكة لا تشوبه شائبة. يدخل هذا الطفل إلى معترك الحياة فينضج على مهل. تتوالى عليه السنون فيكتسب مهارات وخبرات تغير من تفاعله مع كثير من المواقف. يتعلم ما كان يجهله ويكرر الأفعال التي جلبت له السعادة ويتفادى ما كان سبباً في غمه وحزنه. يعيد منظومة ثابتة كانت وسيلة من وسائل راحته ويقوم بتعديل ما لم يجدي معه نفعاً.
لكن يبقى هناك دوماً ما لا يملك تغييره من الواقع؛ أحداث وأقدار لا يستطيع منها فكاكاً يتعلم أن يصمد أمامها وأن يتكيف معها حتى تزول أو حتى يستطيع تقبلها بأحسن ما يكون. تغير هذه الخبرات والمواقف الإنسان. بعضها فرضته عليه الحياة وبعضها فرضته عليه ضريبة التعامل مع غيره من البشر. وجودنا كبشر في حياة بعضنا البعض ضرورة فطرية جبلنا عليها فلا يمكننا العيش بمعزل عن الآخر. نولد في أسرة من أب وأم وأفراد ثم ننظر حولنا فنجد دائرة أكبر من الجيران وأهل الحي والأقارب ثم الأصدقاء وزملاء الدراسة والعمل. نتفاعل سوياً ونتعايش باختلافاتنا. بعض العلاقات تزيدنا وبعض العلاقات تنتقص منا.
تمر السنون والمواقف ويتحول الطفل الغض الذي يشبه العجينة الطرية إلى شخص مكتمل النضج. يتعلم يوما بعد يوم ويتعرض للضغوط والمشكلات. تختلف استجابته عاماً بعد عام وتجد أن الشخص نفسه قد تفاعل مع موقف ما بطريقة تختلف عما عهده من قبل. يتعجب المحيطون به فهم قد عرفوه يتصرف وفقاً لأسلوب معين. ربما يكون هو ما دفعهم لتعريضه لنفس الموقف مرة أخرى منتظرين منه نفس رد الفعل. تكون المفاجأة أنه قد تغير وأنه يتصرف بطريقه مختلفة ترضيهم أحيانا وتصدمهم أحيانا أخرى. المنصف منهم من يتقبل التغير حتى وإن لم يرضه وأصحاب الهوى والمصالح الشخصية لا يرون أي حق لصاحب الأمر في فعل ما يرضيه هو لا ما يرضيهم هم.
إن كنت تتعجب من تحول شخصية فلان أو علان راجع العوامل المسئولة عنه. اسأل نفسك إن كنت مسئولا يوما عن خذلانه أو إن كنت قد منعته حقا أو ظلمته في موضع نصرة. ولتحافظ على رغيف خبزك الشهي إما أن تأكله طازجاً وإما أن تصونه في مكان مناسب وتهييء له الظروف الملائمة. لكن إن أهنته وضغطت عليه ولم تراعِ طبيعته الهشة وأنه قابل للفساد وفقدان الرونق أو التعرض لمجموعة من الفطريات التي بإمكانها تشويهه وتنفير الجميع منه بإفساد طبيعته تحول لشيء يضر ولا ينفع. تعترك الحياة الإنسان تماما كرغيف الخبز. يبدأها غضاً طرياً هشاً وكلما زاد الضغط عليه وألهبته نيرانها كلما اشتد قسوة وشدة حتى ينتهي به الحال لقطعة سوداء متفحمة سلبت منها كل ما كان يوماً بهجة للناظرين وللآكلين.
التعليقات