تتوارد الخواطر في ذهني كل أسبوع عن موضوع أكتب فيه. أفكر مليا أأكتب عما يشغل الرأي العام فأنا جزء لا يتجزأ منه سواء اختلفت أم اختلفت معهم أم أكتب عما يشغل بالي أنا شخصيا؟! ما يميز الكاتب أحيانا هو قدرته على استخلاص مشاعر وخواطر تتجاوز حدود مفردات الواقع الماثل أمامه. يرى في كل حدث أبعادا تتجاوز حدود الزمان والمكان ويتتداعى في نفسه مشاعر ربما عجز صاحبها نفسه عن التعبير عنها بدقة واستفاضة ناهيك عن الحرية. نتهم نحن الكتاب بأننا نفلسف الأمور أحيانا أو نحملها فوق ما تحتمل أو نعيد تأويلها وفقا لأهوائنا الشخصية ولا يمكننا إنكار ذلك أو تكذيبه لكنه ليس هو الحال دائما. في كثير من الأحيان يكون تأمل الواقع من حولنا ملهما للحديث عن مفاهيم ومشاعر لا يمكن إغفالها. ولعل المشاعر الأبرز التي تتجلى واضحة أمامي في خضم ما يمر به أشقاؤنا في فلسطين هو إحساس الظلم.
لقد تجرع الفلسطينيون الظلم على مر عقود وعقود. تعرضوا للتهجير والقتل والاعتداء على الممتلكات والأنفس. سلبت أراضيهم وحريتهم وهويتهم. رأوا أرضهم تقسم وتحتلها لغة أخرى غير اللغة العربية ورفرف علم آخر غير علمهم في السماء وهم لا يملكون رد الظلم عن بلادهم وموطنهم. تحكم آخرون في مصيرهم وهم بلا حول ولا قوة. شهدوا وافدين من شتى بقاع العالم يقاسمونهم أرضهم عنوة وقسرا. تعرضوا لمذابح وانتهاكات ظالمة ليستسلموا ويقبلوا الأمر الواقع وكان هذا قمة الظلم.
ظلمهم من سلب منهم بيوتهم وظلمهم من فرض عليهم واقعا لا يملكون منه فكاكا. ظلمهم من عاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية بعد أن كانوا أسياد الأرض وحفظتها. ظلمت أجيال وعت على الدنيا كأبناء نازحين ومهجرين. ظلموا بفقد الأهل وظلموا بالتعرض المستمر للغارات والقصف والدمار. حرموا من مباهج الطفولة وفرض عليهم الحصار الاقتصادي والطبي لسنوات وسنوات.
ويوما كبر الصغار المهمشين مسلوبي الأرض والحق وقرروا الانتفاض ورفض الظلم. لم يجدوا وقتها سوى حجر صغير أمسكوا به في وجه العدوان ليردوا الظلم والإرهاب ويرفعوا صوتهم برفض القهر. حاولوا الاستعانة بالغير فلم يجدوا عونا إلا أنفسهم. يقينهم بالله هو ناصرهم ويدركون أن(ما حك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك). تكبدوا الخسائر والمصاعب يوما بعد يوم حتى جاء يوم قرر فيه عدوهم أن الحل الأمثل لهم هو القضاء عليهم وتطهير المنطقة من عرقهم تماما. ونشبت حرب غير متكافئة الأطراف وتحول الظلم إلى ظلمات وبدأت حرب إبادة شاملة لهم. جيل كامل من الأطفال والأمهات في سن الإنجاب أصبح هدفا يوميا لصواريخ وقنابل لا تعرف الرحمة وتعتنق الدمار. تراكم الظلم عليهم وشعر كل حر من حولهم بالأسى والغضب لكن ما باليد حيلة. تلاحق صور الأطفال والأشلاء العرب في كل مكان بفضل وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي كانت وبالا على المعتدي فكشفت جرائمه وفضحت انتهاكاته وعدوانه غير المتكافيء. ادعوا أنهم يدافعون عن أنفسهم فجاءت الصور لتكشف للعالم هوية المعتدين الصغار من الرضع والأطفال بل والأجنة في بطون أمهاتها.
اجتمعت القلوب المحبة التي لا ترضى الظلم على الحل الوحيد الذي يملكونه للتعبير عن الغضب ومحاولة ردع المغتصب المجنون وهو نشر التوعية بالقضية وحقيقة ما يحدث هناك ورأوا أن الحل في مقاطعة منتجاته ومنتجات كل من يؤيده ويدفعه للمزيد من القتل. انتشر شعور القهر والظلم واتسعت دائرته لتخرج خارج دائرة الضحايا الفعليين تماما كتأثير حجر يلقى في الماء فينتج عنه دائرة فأخرى أكبر وأكبر. تحول الظلم إلى فعل إيجابي ومحاولة رفض وغضب مشروع. تم الاستبدال والاستغناء. من يقتل أخي فلا أهلا به ولا سهلا. من لا يرحم لا يُرحم ولا خير في منتج يكون ريعه رصاصة في قلب طفل أو شظية في رأس أم.
كان شعور الظلم شرارة وعي وإدراك وصحوة للإنسانية باختلاف أديانها وجنسياتها. توحدت الأراء والأفكار في رفض ما يلقاه هذا الشعب المستضعف من تطهير لعرقه الصامد. أحيانا يكون الظلم أداة قهر يستنزف الإرادة ويوهن العزم لكن عندما يتعلق الأمر بشعب صامد وأرض مباركة كفلسطين يكون الظلم سببا في يقظة الشعوب وتفجر وعي أجيال كدنا نفقدها في غياهب جب الحداثة والتكنولوجيا.
التعليقات