سألني صديقي مرارًا ما بك؟ وكانت الإجابة دومًا أنني بخير.
تلك الإجابة النموذجية التي تعطيني أمان التخفي وأمل الاستمرار، الاجابة التي أحبها أو أتمناها، الإجابة التي ترفع عني حرج الحديث وقسوة المشاعر وقبح خروجها.
بعض القلوب ملعونة باقفالها!
في معظم الأوقات أصر على خداعك وأحب ذلك، فذاك ما يبقيني في المنطقة الآمنة من روحي. في كل مرة تنجح المحاولة وأغلق على روحي باب، يتسرب إليّ الشعاع المستنير الذي يشعرني بسكينة من ليس له أحد غير الله.
بعض الأنفس خروج الكلمات لديهم مثل خروج الروح، ومنهم من يستبسل في قتاله هذا إلى أن يهلكه.
أحيانًا يكون لديك من الفصاحة لتتحدث عن كل شيء، لكن عندما تصل إلى الحديث عن نفسك ينعقد لسانك تتوارى الكلمات ملتحفة ثوب الوحشة والضبابية والغموض والتخفي.
أشعر بالأمان من خلف ستار.
إن الأشخاص الذين اقتربوا من تلك المنطقة الرمادية أعرفهم جيدًا، فقد قاموا بملامسة هوة سحيقة لا أستطيع أن أصل إليها وحدي.
تتبعثر الجمل وتتعدل الكلمات، تختفي علامات الاستفهام وتصبح الحوارات بلا إجابات.
ما أعقد النفس البشرية التي لديها القدرة على وصف مكان الوحشة بدقة ولكنها لا تتقن التعبير عن تفاصيله.
تلك الأبعاد الشاسعة في أخاديد النفس المتعبة هي أنماط متزمتة لأرواح تخشى التجاهل ويقتلها سوء التقدير.
إن هناك نوع خاص من الأمان في الصمت.
الكلمة يقابلها الجواب أما الصمت فهو عزلة من انهكه ضجيج السنوات، هو الصوت الآمن الذي يسمعه الأصم.
ولعل صمت الوحشة خير من إحباط التوقعات.
عندما تكف الأشياء عن كونها واضحة، عندما تشك في أنك حي، عندما تتنكر لك صلابتك، عندما تخور قواك … اصمت ففي صمتك الكثير من أمن التجاوز وأمان المرور.
إن تلك اللحظة الفارقة التي تود فيها تجاوز صمتك هي نفس اللحظة التي قد تؤدي بك للانهيار.
الصمت هو المعول الآمن الذي تدك به على صخور صدرك المهشم لتُرممه.
لقد علمتني الدنيا أن استخراج بعض شظايا القلق من صدرك يبقيه في نزيف مستمر؛ بعض الأوجاع علاجها التجاهل وأجرها على الله.
لو كنت تتصور يا صديقي أنك تستحق السعادة الكاملة فأنت مخطيء، لن تنال سوى سعادات مستمرة منقوصة تُكْمِلها برضاك.
لقد تغيرنا بدرجة مرعبة يصعب معها أن نتذكر من كنا، لكننا بلا شك نعرف جيدًا من نحن الآن.
نحن نشبه نَفْس كنا نعرفها، لكنها اليوم لا تلين ولا تنكسر!
نفس تعتز بحلو البقاء، نفس تصمت عن الألم ولا يغضبها، نفس تتحدث عن الغد من خلف أستار الأمل، نفس تفتخر بالعوائق وتجيد ترويضها، نفس عفيّة تقضي الحوائج بِرًا وودًا …
أعظم ما تجاهد من أجله في دنيانا هو أن تجاهد من أجلك، من أجل أن تبقى كما أحبك من حولك، أن تظل ذاكرة تخزين الذكريات الحلوة، أن ترمم ولا تتوقف، ألا تمل العطاء، أن تشاء الحياة وأن ترتجي منها نجاة الاكتفاء وحفاوة التواجد والظل الكريم.
أفعل كل ما يمكّنك من التعافي، تصنع الحياة إلى أن تجيد صناعتها، تاجر في المحبة، اسرف في البناء وعوّل على أمان النهايات، ووسط كل الخيبات استجلب الرَفْد والنَعْمَاء ثم امدد لك خواتيم تليق بمقامك.
امتهن السعي الحثيث ولحاق الركب وترجي الإحراز، ففي النهاية الاحتفال بالوصول خير من خسران الانتظار.
يا رب نسألك حسن السعي وسلامة الطريق، يا رب السلام من الفواجع والأمان من الحسرات، ونسألك انقطاع الحزن والتلحف بالأحباب وأن نظل تلك البذور الصلبة التي يؤدي دفنها لمزيد من الحياة.
التعليقات