يرى الباحث السوري د. صالح الأشتر أن "صدى صوت شوقي كان يرن في أجواء العالم العربي، يهز ضمائر النائمين، ويفتح أعينهم على الخطر، ويرسم للأجيال طريق النضال الدامي".
وهذا ما دعاه أن يترك باريس صيف 1953 إلى إسبانيا، إلى حيث يٌتاح له أن يشهد بعينيه الشاعر المنفي وهو يتنقل في أرجاء الأندلس، ويسمع بأذنيه صوته وهو يتغنى بأمجاد العرب في الفردوس المفقود.
وإذا كان الباحث لا يستطيع أن يرافق شوقي منذ خروجه مع زوجه وأولاده وخدمه من قناة السويس عام 1915، ولا يمكنه أن يركب البحر معهم إلى مرسيليا فبرشلونة، ففي استطاعته أن يقف في ميناء برشلونة الكبير في انتظار السفينة الإسبانية التي تقلهم.
وفي برشلونة سيقيم الأشتر ما أقام شوقي، يصحبه وأهله في رحلاتهم إلى ضواحيها، ويعود دائما إلى تلك الضاحية المشرفة على البحر الأبيض التي ينزلون في منزل من منازلها، حيث يأوي الشاعر إلى المطالعة والقراءة كلما استبدت به الوحشة وفاض به الحنين إلى الوطن، حتى إذا مل القراءة وترك الكتاب، وخرج يتريض في الحدائق أو يزور المتاحف يتبعه ليزورها معه، ويرى انطباعات المشاهد في شاعريته وحسه.
وبعد أن تنقضي تلك السنوات الثلاث، ويترك شوقي وأهله برشلونة إلى جنوبي إسبانيا، يسير الأشتر معه، فيزور جزر الباليار القريبة، ثم يغادرها عائدًا إلى مدريد، ليرافق الشاعر في طوافه بمكتباتها الشهيرة وقصورها، حتى إذا رأى بوادر الثورة المشتعلة في هذه المدينة بين العمال والحكومة، أسرع مع الشاعر وأهله بالسفر إلى الأندلس.
وإذا مر شوقي بطليطلة مرًّا سريعًا فلا يرى منها غير جسرها البالي وهي تطل عليه، ففي وسع الباحث أن يشهد في ساعات قليلة ذلك الجسر القديم الذي لا يزال يحتفظ باسمه العربي "القنطرة El-Alcantara وأن يطوف بأحياء المدينة الصغيرة وشوارعها الضيفة، وبذلك المسجد المتهدم الصغير الذي يقاوم أعمدته ومحرابه وسقفه يد الإهمال والبلى والخراب، ثم يغادر المدينة على عجل ليلحق بشوقي وركبه في قرطبة، ويزور معهم المسجد العظيم الذي شيده فيها عبدالرحمن الداخل، حيث يطالعنا أول أثر عربي ضخم في الأندلس في رحلتنا، فيبهرنا جلاله، وننحني أمام أطياف الماضي المجيد، وهي تتراءى لعيني شوقي من وراء هذه المدينة الزاهرة التي لم تعد غير قرية كبيرة قذرة.
ونلحق بالشاعر في أشبيلية، لنلازمه في نزهاته على ضفاف نهرها الكبير، وفي وقفاته الطويلة في أبهاء (القصر).
ثم يرحل الباحث مع الشاعر إلى غرناطة، ويشاركه طوافه بالقصور العربية الجميلة، ويتتبع خطواته وهو يتنقل في غرف (الحمراء) حتى إذا وقف عند (مجلس السباع) مأخوذًا بالروعة والجلال والفخامة، أصغينا إلى الشعر، ينساب من فمه، حزينًا باكيًا، يصور الماضي الجميل الزاهي، ويفيض به الحنين إلى ربوعه ودياره، فيناجي وطنه البعيد أرق مناجاةً وأعذبها.
وعندما يركب الشاعر وصحبه البحرَ عائدين إلى مصر، يكون الأشتر في وداعه، ليعود إلى باريس، ويتلقَّى أخبار الشاعر العائد من منفاه، منذ وصوله وأهله إلى الإسكندرية، وركوبه القطار إلى القاهرة، حيث ضاقت محطتها بآلاف الطلبة المنتظرين، وقد استبدت بهم اللهفة إلى استقبال الشاعر الكبير، حتى إذا أطلَّ عليهم حملوه على أعناقهم في ثورة من الحماسة والحب والتكريم.
ويرى صالح الأشتر أن حياة شوقي في برشلونة كانت فترة تعبئة ثقافية ووجدانية، ألمَّ خلالها بتاريخ العرب في الأندلس خير إلمام، وصهرت نفسه الحساسة آلامُ الغربة، وأرهفها الحنين إلى الأهل والوطن. وكانت غرناطة آخر مدينة في الأندلس تركت في إنتاج شوقي الأندلسي صورة لآثارها.
ويتساءل الباحث: ما الذي دعا شوقي إلى اختيار برشلونة مقرًّا لمنفاه؟
كانت السلطة العسكرية في مصر تروم اعتقاله، مع من اعتقلتهم أثناء الحرب من أنصار الخديوي المعزول عباس، حذرًا مما قد يثيره هؤلاء لها من متاعب وشغب في البلاد، لكن بعض أصحاب الشاعر، من المتصلين بالسلطات البريطانية شفع له لديها، فرجعت عن عزمه على اعتقاله، واكتفت بنفيه من مصر، ما دامت الحرب الكونية قائمة، ونصحت له بمغادرة مصر إلى بلد محايد؛ فشرط الحياد إذن إجباري، تفرضه السلطة البريطانية.
وتؤكد بعض المصادر أن السلطات البريطانية تركت لشوقي أن يختار "الجهة التي يريد الإقامة فيها خارج مصر فاختار إسبانيا" واختار منها برشلونة، فهي الميناء المحايد الوحيد الذي يتيح له العودة، بأقصى سرعة ممكنة إلى وطنه، عندما تنتهي الحرب.
في برشلونة كتب شوقي أرجوزته "دول العرب وعظائم الإسلام"، غير أن الرصيد الأندلسي والفني في هذه الأرجوزة فقير كل الفقر، وإن لم تُغن هذه الأرجوزة الفكرة الأندلسية عند شوقي، فإنها استطاعت أن تُغني الفكرة العربية عنده جملةً، ذلك أنها دليل صارخ على انصراف شوقي في فترات طويلة من أيامه في برشلونة إلى التاريخ العربي، وسيكون لهذا الانصراف أثره الكبير في توجيه شاعريته وشخصيته، منذ مغادرته برشلونة إلى آخر أيام حياته".
كان شوقي في برشلونة تشغلة أمنية واحدة لا تكاد تغيب عن نفسه: متى يعود إلى مصر، وكلما امتدت الحرب، وتأخرت العودة ازدادت هموم الشاعر وأحزانه لوعةً وكآبةً، وفاض به الحنين إلى الوطن، ووجد في ابن زيدون وشعره، أخًا له في المصيبة والألم. ورأى في عصفور وادي الطلح (نائح الطلح) أنه مثله غريب الدار، بعيد عن أفراخه، يُبكيه الحنين إليها، ويُرمضه الشوق إلى دياره، فجمعت بينهما المصيبة وإن فرقهما الجنس.
ثم يعود شوقي إلى وطنه عام 1920 شيخًا في الحادي والخمسين من عمره، وقد زادته آلام المنفى وهمومه إحساسًا بشيخوخته، ولكنه ما يكاد يحط أقدامه في بلده، حتى يحس بقوة الشباب تتدفق من جديد في عروقه، فيقول:
ويا وطني لقيتك بعد يأسٍ ** كأني قد لقيت بك الشبابا
ويؤكد الباحث السوري أن عودة شوقي من منفاه، كانت فاتحة عهد جديد في شخصيته وفنه، ومنعطفًا ذا خطرٍ كبير في حياته الأدبية، فقد كان قبل المنفى شاعر الخلافة الدينية، فأصبح بعده شاعر الوطنية المصرية.
لقد كان شوقي قبل منفاه شاعرًا بلا رسالة واضحة الأهداف، بيّنة المقاصد، فأصبح بعد تجربة المنفى شاعرًا ذا رسالة قومية وطنية. وكان شوقي قبل المنفى شاعر عاطفة خاصة فردية، تتمسّح بالقصر، ولا ترى غير هواه، فأصبح بعد المنفى شاعر العاطفة الشعبية العامة، ليس في مصر وحدها، بل في العالم الإسلامي كله؛ وهكذا كان المنفى مخاضًا نفسيًّا، أدرك شوقي بعده حقيقته وذاته، وكان قبله حائرًا ضالاً ضائعًا.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن المنفى الذي شكا الشاعر ويلاته وأهواله، كان نعمة كبرى على الأدب العربي الحديث، فقد استطاع أن ينقذَ أكبر شعراء عصره من الضلال والحيرة والتيه، وأن يستخلصه لأمته ووطنه، وأن يهديه الصراط المستقيم إلى بقائه وخلوده.
وتمضي بشوقي الأيام ما بين الشعر الغنائي والشعر المسرحي. وفي أواخر عام 1932، وحوالي الساعة الثانية من صباح الرابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) يغيب شوقي عن الدنيا، وقد خلف فيها ذكرًا خالدًا لا يموت.
التعليقات