فى عام 1896 رسم الفنان جان ليون جيروم لوحة فنية فى منتهى الروعة والإبداع تحت عنوان «الحقيقة العارية»، واللوحة تحكى قصة خيالية دارت بين الحقيقة العارية والكذب المُكتسى، وكانت انعكاسا للأوضاع العامة فى القرن التاسع عشر والعهود لا تتكرر، إنما هناك مَن هم أسرى التكرار لا يتعلمون من الأخطاء ولا يدركون أنه ليس هناك وقت ولا مساحة للعشوائية، لذا وجب التنبيه. تقول الأسطورة إن الكذب والحقيقة تقابلا فى يوم من الأيام.
فقال الكذب للحقيقة «إن اليوم جميل جدا» فنظرت الحقيقة حولها فى شك ورفعت عينها للسماء فوجدت أن الشمس مشرقة، وأن الجو جميل بالفعل، فقررت أن تثق فيه وتقضى اليوم فى نزهة معه لعله تغير وأصبح أكثر صدقا وشفافية، واستجمع الكذب قدراته وعاد وقال للحقيقة «إن مياه النهر صافية ودافئة فهيا بنا نسبح»، نظرت الحقيقة للكذب وداخلها بعض الريبة ثم لمست المياه فوجدتها صافية ودافئة بالفعل فشعرت بالأمان، وخلع الاثنان ملابسهما ونزلا فى النهر للاستحمام، وفجأة خرج الكذب من المياه سريعا وارتدى ثوب الحقيقة وجرى حتى اختفى عن العيون.
ونظرت الحقيقة حولها فلم تجده لا فى المياه ولا خارجها وللأسف اضطرت للخروج عارية، وحاولت أن تلحق به لكنها فشلت فى العثور عليه، ولما رأى الناس الحقيقة عارية تضايقوا منها وأداروا وجوههم عنها، ورجعت الحقيقة المسكينة إلى النهر وتوارت ولم تظهر من شدة الخجل. ومنذ ذلك الحين والكذب يلف العالم مرتديا ثوب الحقيقة والبشر يتقبله، وفى نفس الوقت يرفضون رؤية الحقيقة العارية.
ومن بنات أفكارى تصورت لقاءً على غير ميعاد جمع بينهما مجددا فى العصور الحديثة، ودار الحوار التالى:
■ قالت الحقيقة غاضبة: «أنت مخادع وملعون ولا تستحق ثقتى فيك، ترتدى ثيابى من غير حق ولا صوابية، تجول تصنع شرا وتستقطب ملايين البشر كل يوم فيلهثون وراءك معتقدين أنك المُؤكّد والضرورى والأصلح لتلبية مطالبهم وتحقيق رغباتهم واختصار الوقت والجهد والمال لبلوغ أقصى الأحلام بفهلوة وشطارة تفتقد المهارة، وكل هذا أوهام من صنعك لا ترتقى لمستويات الإخلاص والالتزام والجدية فى العمل والحياة، أيها الكاذب المتصنع، أنت سراب فلا يصح إلا الصحيح وستظل الطرق المستقيمة هى التى تؤدى إلى النتائج المشرفة».
«بلا ادعاء ولا تضليل، أنا الحقيقة فى غاية الاستياء منك، ألا تخجل مما تفعل؟! أنت تفسد أذهان الآدميين وتعبث باستقرارهم وتجردهم من كل المشاعر الطيبة والنوايا الحسنة والمثل العليا، أنت تتلاعب بضمائرهم وتسيطر على أحوالهم كما تشتهى ويحلو لك دون مراعاة لاحتمالهم، كيف تعيش بينهم آمنا وسالما وأنت الذى سلبت إرادتهم ونهبت مقوماتهم وتركتهم يتجرعونك باستمرار ويرفضون الإقلاع عنك».
- وقال الكذب باستفزاز: «أنتِ ساذجة وغافلة أيتها الحقيقة العارية، ولن أبادلك السب والقذف لأنكِ مسكينة، نفد رصيدك من الستر ولا غطاء يحميكى من حرقة اليأس وصقيع الوحدة، تعيشين بمفردك بلا أنيس ولا جليس، لا أحد يسمع صوتكِ أو يراكِ سواكِ، أنتِ لا تتقنين فنون الحياة ولا تفهمين شيئا عن أساليبها الحديثة، الحياة تحتاج إلى مرونة فى التعاملات وتحايل على الظروف مع تجميل بعض الأمور التى يصعب استيعابها.
إنسان هذا العصر لابد أن يتحلى بالخفة فى التنقلات والسرعة فى الإنجاز وتشابك دائرة علاقاته بحيث كله يصب فى كله، لا وقت للترتيب والتنسيق لأنه يستنزف الطاقات، الإتقان هنا فى سرعة الإتمام والمهارة فى كثافة الانتشار والنجاح الأكيد فى الحشد، انظرِ حولك، الزمن يجرى والعمر يفر من بين يديكِ وأنتِ تتمسكين بالمناهج العتيقة التى لا مجال لها ولا مكان».
«انفضى غُبَار القِدَم وتحلى بالحداثة واعملى بربع طاقتك وخَدّمى على العمل بثلاثة أرباع لباقة وحداقة، وتعالى نتعاون معا ونمسك العصا من المنتصف فنرضى طرفى المعادلة، ونتفق على مبدأ لا صراحة مطلقة ولا نفاق فج».
■ وأجابت الحقيقة: «نحن فى غاية الاختلاف ولا سبيل للاتفاق وأنا الأصح وأسبقى دوما».
- فعلق الكذب: «الأيام بيننا والرهان على الأقوى، أنا الأنجح والأبقى دوما».
والحكم لك أيها القارئ الأمين، مَن سيفوز فى النهاية.
التعليقات