عندما يحين موعد الفراق المحتوم رغم أنف الجميع ويفارق الأبوان الحياة يحزن الأولاد وتنهمر الدموع وتتحسر القلوب. لكن من بين كل الأبناء يكون هناك واحد يختلف الأمر معه من مجرد فراق ورحيل الوالدين إلى رحيل صديق وشريك عمر خاصة إذا امتد العمر بهما وبلغ هوالمشيب بينهما. إنه الطفل الأول. أول الأبناء وأول فرحة العمر. وليد الأمس قد اشتعل رأسه شيبا لذا ففراق والديه بالنسبة له يعني شريط حياة كاملة يمر أمامه. حياة طويلة مكتملة نسج الموت نهايتها الحتمية فهي حافلة بالذكريات والمواقف التي شارك فيها الابن الأكبر أو البنت الكبرى أبواه دونا عن غيره من الإخوة.
هذا الطفل الأول شهد ترقبهما لوصوله في المستشفى وحضر فرحتهما برؤيته لأول مرة. حضر أمه وهي تمارس أمومتها لأول مرة وعاش مع أبيه لحظة نطق اسمه. كان سبب فرحتهما بالكلمة الأولى والخطوة الأولى. هو من أدخلهم عيادة طبيب الأطفال لأول مرة ومن صحبهم في أول يوم مدرسة. كان مع الأم الشابة وهي تتحمل مسئولياتها وكان شاهدا على كفاح الأب وتضحياته وتنقله من وظيفة لأخرى حتى يؤمن أفضل حياة لأسرته. الطفل الأول كان حاضرا وقت ولادة إخوته واحدا تلو الآخر. ساعد والديه في تربيتهم وحضر نمو الأسرة واتساعها. كان عونا لإخوته وحاول أن يكون قدوة ليتبعوه ولا يضيع جهد الأب والأم.
وحده يذكر البيت الصغير وحضر التنقل من أصغر لأكبر. كان معهما في غربتهما وتحمل معهما الصعاب. كبر الطفل الأول وشهد وفاة جدته وجده وكان بجوار أمه وهي تفقد أمها وأبيه وهو يفقد أبيه. كثيرا ما كان مستشارا لهما في مختلف شئون العائلة ومرت السنون وشهد قلق أبيه وهو يسلم ابنته لزوجها لأنها سنة الحياة ومسح دمعة أمه وهي تعود للبيت الخالي رغم تتويجها بلقب (أم العروس). كان هو أيضا سبب فرحتهما بالحفيد الأول ولقب الجد والجدة.
عاما تلو الآخر يكبر الطفل الأول ويكبر معه أبوه وأمه. يسير برفقتهما في السراء والضراء، في الصحة والمرض ويتحول من طفل إلى صديق ورفيق ومستشار وأمين للسر. يراعي إخوته ويدير شئون البيت ليخفف الحمل عن كاهل أبويه. يمشي ثلاثتهما يدا بيد وهو إلى جوارهما. يمسك كل منهما بيد وهو يستمد الأمان من بينهما مهما طالت قامته واشتد عوده. تأتي لحظة الفراق الأولى وتفلت يده يد أحد والديه فيرخيها حزنا لكنه يكمل المسير مع الآخر فيكون له رفيقا وسندا وونيسا عوضا عمن فقده.
تستمر الرحلة لأعوام بعدها حتى تحين لحظة تمنى كثيرا الهروب منها. تفلت يده الرفيق الأخير المتبقي. يجد نفسه وحيدا على الطريق. انتهت الرحلة وذهبت الرفقة بلا عودة. يحزن الجميع لكن حزنه مختلف. ليس مجرد موت ولا نهاية طبيعية للحياة. رؤيته مختلفة فهو الرفيق والونيس. قضى معظم عمره معهما. العلاقة بينهما أقوى وأكبر من مجرد ابن وأبويه أو بنت وأبويها. هم شركاء حياة حافلة كان شاهدا عليها وحاضرا في كل تفصيلاتها. عرفهما وهما في مقتبل العمر وعاش معهما حتى بلغ أشده وشاب شعره وبلغا من العمر أرذله. شريط حياتهما يمر أمامه وهو حاضر في كل السنوات إلا قليلا. هذه نهاية لجزء كبير من حياته هو شخصيا فالأمر مختلف والمصاب جلل.
يقولون إن الموت حق وهو كذلك. لكن الطفل الأول الذي توالت عليه السنون في كنف والديه حتى بلغ المشيب يفقد بموت آخر من تبقى منهما جزءا كبيرا من حياته وذكرياته؛ طفولته وشبابه ومشيبه. يلملم شتات نفسه ويذكر نفسه أنه الطفل الأول وأكبر الإخوة وعليه استكمال الرحلة دونهما حتى وإن كان الطفل الصغير يصرخ بداخله بحثا عنهما!
التعليقات