عندما أتحدث عن شخص أحببته بصدق لا أكتب سوى عن جماله، أما عندما أتحدث عن شخص أحببته وفقدته تكون كلماتي هي الذكرى الطيبة التي تركها في قلبي.
كل من يعرفني عن قرب يعلم أني واحدة من الكثيرين الذين يعانون ضعف الإبصار ومشكلاته. القليل ممن حولي يعرفون أن تلك العطيّة كانت ولا تزال مصدر قوتي وقدرتي على تجاوز التحديات التي مرت على عمري.
اليوم أتحدث عن إنسانة كانت هي مصدر تلك القوة والدافع الذي أعانني بصورة مشرفة على مواجهة مخاوفي.
صديقتي الجميلة "منال"، كانت واحدة من هؤلاء الطيبين التي أوجدها الله في دنيانا لتكون حجة علينا جميعًا.
مثل أعلى ومنهاج حياة خالية من الأنا والصغائر. عرفتها في بداية زواجي في رحلة بهية تجاوزت العشرين عاما بقليل.
في بيت هذه العظيمة تعلمت كيف أمضي في الحياة بأمان. سيدة يجري في عروقها دماء الأصل والرضا والجمال.
ابتلاها الله بالحرمان الكامل كل زينة الحياة الدنيا، لكنه حباها بكل القوة الداخلية والإيمان الراسخ لتجاوز ذلك كله.
عشت إلى جانبها أتعلم وكأني في سباق مع الزمن.
في بيتها الطيب ترعرع أبنائي الثلاثة. كان هذا البيت قبلتي طوال سنوات نشئتهم كلما احتجت، أنا بكل انشغالي بدراستي وتحديات العمل، اترك الصغار في بيت منال وأمها الحبيبة وزوجها الاخ السند في أمان الأم ورعايتها.
سنوات من العمر مرت وهي صابرة على مرضها إلى أن فقدت بصرها قبل ما يزيد عن عشر سنوات من وفاتها ودفنت أربعة من البنين عند ولادتهم، وعانت من جلطات القلب والمخ وأمراض المناعة وانتهت إلى الفشل الكلوي التام.
هناك من الحيوات التي تقف عاجزا أمامها.
من مفارقات القدر أن من ربت معي أبنائي الثلاثة أم ليس لها أبناء فاقدة البصر والصحة لكنها كانت الطرف الأقوى في تلك المعادلة.
تعلمت بجانبها كيف أحب ابتلائي، كيف أتعامل معه كجزء من واقعي، وكيف أطوعه وأعيش به راضية مطمئنة.
في بيت منال كانت هنالك تُقام كل مراسم الحياة!
ثلاثة أطفال يتم محبتهم ورعايتهم على أكمل وجه، إفطار شهي، غذاء على المزاج، لعب وتعليم، مشاهدة أفلام الكرتون وشرائط الفيديو الخاصة بهم، توجيه بحب، عناية فائقة، ودروس للحياة بقيت خالدة في نفوسهم إلى يومنا هذا.
كان بيت منال بيت الأمان. بعض الأخوة لا يربطك بهم إلا دماء المحبة يأتوك على هيئة مِنح ونِعم!!
عندما أذهب إلى الله سأسألها كيف كانت تفعل. سأسألها كيف كانت الأم التي أطمئن على أبنائي بجوارها، سأسألها كيف كانت جلساتهم الطيبة بجوارها إرثهم الأجمل في الدنيا إلى يومنا هذا.
كنا نحفظ القرآن سويا اصطحبها كل أسبوع لدار الفوز، سويعات كانت تعني لنا الحياة.
كانت أجمل لقمة أتذوقها وأنا بجانبها في بيتها، وكانت كل لقاءاتنا دافئة حنونة طيبة.
جعلتني بقوتها أتعامل مع ضعف إبصاري ومشكلات عمودي الفقري وكأنها كل أسباب القوة التي تعينني على إكمال حياتي بصفاء.
أحببت بجانبها ابتلائي!
تعلمت إلى جوارها أن كافة الابتلاءات يمكن تجاوزها، أن الحياة أولى أن تستمر، وأن الرضا شعور يغذيه صبرك وقوة إيمانك، وأن العيش بسعادة قرار تختاره مهما كانت النواقص التي تعتري دنيتك.
كثيرا ما كانت نفسي تحرجني عندما اتعثر واشتكي -رغم إنني أرى- وهي لا تشتكي وهي التي لا ترى.
كانت تخرج وتقوم بالرحلات وتحضر الأفراح وتدخل السينما وتحضر الحفلات الموسيقية وتذهب لقضاء العزاء، كانت تفعل كل هذا كأي شخص عادي بحب ورضا ومشقة بالغة.
لو تحولت ساعات يومك وعمرك التي تمر عليك وأنت لا تشعر بها إلى تحديات وعثرات يومية لعرفت قيمة النعيم الذي نرفل فيه جميعًا.
صديقي نحن مرزوقين لأبعد الحدود.
كانت اللبنة الخام للحب كعبة الجمال على الأرض، مغناطيس يسحبك لكل الخير الذي تحتاجه لتجاوز دنيتك.
يا إلهي كم كانت نعمة عظيمة في حياتي، رحمها الله واسكنها الغرف من الجنة كما كنا نتخيل سويًا وأطال الله في عمر أمها الحنونة آخر ما تبقى لي منها.
احتجت ثمانية أعوام كي أستطيع أن أتحدث عنها، لم أتجاوز فقدها بعد ولا أظن أني سأفعل، ولن أوفيها أبدا حقها مهما كتبت.
كانت حياتي إلى جانبها تجربة ملهمة سنشاهدها جميعا يوم العرض على الله.
أدين أنا وزوجي وأبنائي لهذه العظيمة وأمها وزوجها بطفولة أبنائي السعيدة وزكريات هنية خالدة في نفوسنا.
الدموع لن تعيد من فقدنا لكن الحديث عنهم هو الشرف الأكبر والخلود لذكراهم على الأرض.
أثق أن كل أهل السماء يعرفونها اليوم، وفي ذكراها البهية أحب أن يتعرف عليها أهل الأرض، فبعض البشر يستحقون الخلود.
ما وفيتها يومًا حقها، ولأرُد بعض جَميلها عليّ أكتب عنها لتعرفوها وتدعون معي الله أن يرزقها العيش الهني في الفردوس الأعلى من الجنة مأوى الطيبين الصالحين، وأن يجمعني الله بها على خير فاشهد لها أنها كانت أفضل عباده، فيُسكنها تعالى أفضل بيوت جنته ويحُفها بالعفو والرضا التام والنعيم المقيم.
التعليقات