عن دار روافد للنشر والتَّوزيع صدر كتاب "بارات مصر قيام وانهيار دولة الأنس" للكاتب محمود خير الله، يتطرَّق المؤلف إلي نقطة حسَّاسة وغامضة لم يتم الكشف عنها، وتحتاج إلي كتاب خاص يعتمد علي الوثائق الحقيقيَّة، وليس الروايات الظَّنية، وهي حكاية بلاط الملوك وأمزجة الحكام الشَّخصية، فلو أنَّ المؤرخين تطرقوا إلي الكتابة عن أمزجة الملوك والحُكام كما كتبوا عن أفعالهم وتصرفاتهم وقراراتهم الشجاعة؛ لكان لدينا الآن ما يُسَمَّى بالبحث في أعماق الشَّخصيات الحاكمة عبر التاريخ، وكان من السَّهل أن نعرف النوازع التي تَمَّ علي أساسها اتخاذ القرارات المصيرية التي ربَّما أثَّرت على أمم وشعوب بأكملها.. ويضرب بذلك مثلاً لمحمد علي، الذي كانت الشِّيشة العَامرة لا تفارقه وهي دائماً إلي جواره.
ويقرِّر الكاتب أنَّ أصحاب القرارات في القصور الملكية التي حكمتْ مصر لسنوات طويلة كان معظمهم من اللذين يسْكَرون ولو على فترات متقطِّعة، ويشير لِمَا أورده المقريزي بما يعكس انتشار وتناول الخمور في مصر، وتخصيص أماكن لتناولها، ومنها ما ذكره عن توران شاه، نجل الصالح نجم الدين أيوب، عندما حارب جيش لويس التاسع قرب المنصورة أنه "أساء السلطان إلى المماليك وتوعدهم، وصار إذا سَكَر في الليل جمع ما بين يديه من الشمع، وضرب رؤوسها بالسيف حتى تتقطَّع، ويقول: هكذا أفعل بالبحرية، ويُسَمِّى كل واحد منهم باسمه. واحتجب أكثر من أبيه، مع الانهماك على الفساد بمماليك أبيه، ولم يكونوا يألفون هذا الفعل من أبيه وكذلك فعل بحظايا أبيه" هذا ما ذكرة المقريزي في كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك عندما ذكر سنة ثمان وأربعين وستمائة.
ويطرح تساؤلاً عمَّا تناولته الشِّفاه عن حكايات غير موثَّقة، حول ما كان يتناوله الرئيس محمد أنور السادات، وهو علي متن الطائرة التي تقله إلى إسرائيل في السَّبعينات من القرن الماضي، يقول: ليت مؤرِّخاً واحداً يقول لنا بصراحة ما حقيقة ما نُشِر علي أحد المواقع الاسرائيلية حول بُقَع زيت الحشيش التي كانت علي أطراف البايب المتدلي من فم الرئيس في هذه الرحلة (ص8) فالكلام هنا في عِدَاد الشائعات الغير مؤكَّده والنَّظر فيها بعين الحقيقة ربَّما يعيد ترتيب التعامل مع الزعماء من وجهة نظر سيكلوجية مختلفة.
انطلقت البارات وراجت بشكلها الحديث في مصر خلال عقود الاحتلال الانجليزي (1882-1952) وتأسَّس العشرات منها في مطلع القرن العشرين.
في الأربعينيات أَنْفَقَتْ شركات الخمور العاملة في مصر أموالاً طائلة للدعاية لمنتجاتها، واضطرَّت للمشاركة في انتاج أفلام سينمائية موضوعها رصدُ حروب الشُّرطة تجاه المخدرات؛ لتكريس الصُّورة الذهنية التي تعتبر تناول المخدرات فعلاً طبيعياً في أغلب الأفلام السينمائية المنتجة في النصف الأول من القرن العشرين.
ويتطرَّق المؤلف إلى الملك فاروق، آخر حكام دولة محمد علي، الذي لا يعرف أحد مدى صِحَّة ما يُنْسَب إليه من قضائه أياماً تحت تأثير الخمور، حيث كان دائم التواجد في أماكن احتسائها، من الكازينوهات إلى المتنزهات، هو وأغلب أركان حكمه وحاشيته.
أما عن علاقة المصريين بالخمور، يقول نقلاً عن أحد العلماء الفرنسيون في كتاب "وصف مصر" : "المصريون على العموم، يأكلون بذور الخشخاش وبذور أخرى يستحلبونها، يدخل فيها الأفيون بشكل رئيسي".
ووفق ما كتبه العالم الفرنسي "كلوت بك" في كتابه "لمحة عامة إلى مصر" ولدى المصريين نوع من الجعة (البيرة) يسمونه "البوظة" وطريقة تحضيرها تقتصر على تخمير الشعير، وهي كثيفة القوام جداً، كَمدة اللون، ذات طعم ردئ في أفواه الأوربيين، ولذيذة جداً في حلوق أبناء البلاد.. كانت هناك أماكن يتعاطى فيها المصريون الحشيش في القهاوي العامة، تسمى المحاشش. (ص 30، 31)
قال بونابرت ذات مَرَّة بعد ثورة للمصريين "لا أحد يفهم الشعب المصري أكثر من الشعب المصري، ثورة كهذه كبيرة في حجمها، وقوة اندفاعها، وفي مثابرتها، تأتي من شعب يُكْثِر من شرب القهوة وتدخين الحشيش، ويتشاجر مع أهله بالسباب، غذاؤه الفول وحكمته "اضرب الدنيا طبنجة".
يتحدث الكاتب عن مقاهي القاهرة ويذكر كافيه ريش، حيث لَعِبَ دوراً عظيماً ومُلْهِماً في تاريخ هذا البلد، عبر انحيازه الدائم إلى الثوار، فقد كانت هذه المطاعم مكاناً آمنا لبعض الثوار، بل أسهمت في صناعة شيء من النجاح لهذه الثورات، وهو ما حدث مع ثورة 1919 وتكرَّر بالوتيرة نفسها وعلى المقاعد ذاتها في 25 يناير 2011.
جلس على مقهى ريش: توفيق الحكيم، يوسف إدريس، نجيب محفوظ، يحي الطاهر عبد الله، غالب هلسا، أمل دنقل، نجيب سرور، فاطمة اليوسف، محمود المليجي، رشدي أباظة، عادل إمام.. وريش باستعارة المؤرخ الكبير جمال حمدان، هي نافورة الحراك وسط البلد، طوال القرن الماضي، وبالوعته في الوقت نفسه.
يحكي المهندس عباس حكاية المطبعة القديمة التي طبعت منشورات ثورة 1919 ويحتفظ بها الكافيه في هذا القبو، قيل إن المالك اليوناني وقتها مَنَحَ القبو ووَفَّرَ المطبعة لسعد زغلول ورفاقه، فكان قبو ومطبعة كافيه ريش هي الطريقة التي أعلنت بها ثورة 1919 مطالبها للعالم. (ص 61)
ولأهمية مقهى ريش فقد كَتَبَ نجيب سرو ديوان شعري باسم "بروتوكولات حكماء ريش" يتحدث الكثيرون عن دور الكافيه فى أحداث 25 يناير 2011 ويونيو 2013 وعن ثوار تلقوا الغذاء والدواء على نفقة المكان.
أما مقهى الحريَّة فقد جلس عليها: الشيخ زكريا أحمد، أحمد رمزي، رشدي أباظة، شكري سرحان، عبد السلام محمد، فطين عبد الوهاب، حسن الإمام، محمد أنور السادات، حتى إن ملك القطن محمد أحمد فرغلي يقول إنه عاش حياته بين هؤلاء.. الضباط الأحرار اجتمعوا كثيراً في مقهى الحريَّة، واتخذوا منها قرارات مهمة.
بعد ساعت من فوز محمد مرسي بمنصب الرئيس نظم عدد من النشطاء وقفة احتجاجية دفاعاً عن الحق في الشُرب بعنوان "البيرة حق لينا" كان ذلك في ميدان روكسي بمصر الجديدة يوم 28 يونيو 2012 (ص 80)
كان هناك بارات أخرى، منها بار في دار أخبار اليوم الصحفية في ستينات القرن الماضي، كما كان هناك بار في مدخل نقابة الصحفيين المصريين. أما عن بار استيلا الذي تقول الروايات إنه أنشاه رجل أعمال يوناني، بعد أن تزوج سيدة مصرية عام 1955 ليكون مخزناً للبيرة، سرعان ما حوَّله إلى بار، يشير إليه البعض حتى الآن باسم المخزن، حضر في هذا البار كاتب بحجم فاروق عبد القادر، كان يجلس بجوار النافذة وبقايا دموع تدق على باب عينيه، ومحمد عفيفي مطر كان يأتي تاركا أرضه ومنزله في المنوفية ليجلس ويشرب، نجيب سرور جاء لستيلا، وشَخَرَ بصوت مسموع، والصعيدى الساخر محمد مستجاب، جاء لستيلا وشَرِب وكتب.
يتحدَّث عن مدينة الاسكندرية التي كانت قبل نحو مائة عام من الآن بها عشرات البارات في شارع واحد وأن استخراج تصريح لتأسيس خمارة كانت مسألة قانونية ومنظمة قانوناً بمعرفة الدولة المصرية وقد تضمَّن الكتاب نسخاً من الحُجَج الأثرية التي تعود إلي العام1913 وأثبت ذلك في نهاية الكتاب، أمَّا ما تبقَّى من بارات الزمن الماضي حتى الآن فلا يزيد علي 5% مما كان قبل مائة عام.
الاسكندرية تضم مقار أربعة شركات للخمور، تتبع شركة الكروم للكحول، المملوكة للدولة، أهمها شركة جناكليس وبولوناكي، في منطقة الحضرة، ومصنع كاتيماتس في منطقة النزهة، ومصنع زنوسي بالرمل، من البارات المشهورة بالإسكندرية "إيليت" جلس عليها يوسف شاهين، عمر الشريف، نجيب محفوظ، أم كلثوم، ديميس روثوس، داليدا، كلهم جاء إلى إليليت، ذاق وعَرِف، أما أغلب بارات الاسكندرية فقد باتت مُغْلَقة لأسباب لا تعد ولا تحصى.
شركة الأهرام للمشروبات كانت الشركة الوحيدة في مصر والمنطقة العربية التي تنتج الخمور والبيرة منذ 100 عام، وهو حق لم يمسسه حاكم بما فيهم الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي نفسه (ص 41) تحت ضغوط اقتصادية معقَّدة سمح قادة جماعة الاخوان باستمرار تجارة الخمور، وقبول أموال الضرائب الباهظة التي تدفعها الشركات المنتجة والمستهلكون لهذه السلعة، حتى العالم 2012 كانت خزانة الدولة تحصل على نحو نصف مليار جنيه من ضريبتي المبيعات والأرباح على الخمور فقط. (ص 45)
ووفقاً لإحصائيات غير رسمية ربما تكون زادت مبيعات "هينيكن" في مصر خلال عام الحكم الاخواني 2012 فقد ارتفعت مبيعاتها بنسبة 4% ووصلت إلى إجمالي قدره 5 مليار يورو بزيادة قدرها 10% مقارنة بالعام 2011. (ص 47)
ويعود بنا إلي الوراء في الدولة المصرية القديمة، فقد عُرف السُكر في مصر قبل ثلاثة آلف سنة تقريباً، من ميلاد السيد المسيح، عليه السَّلام، حينما جَلَسَ اثنان من رجال البلاط الفرعوني يشربان من هذا الخليط، الذي يُصنع من أجل الصلوات الدينية، لا لكي يُمارس به طقس تعبدي ما، بل فقط ليحكي كلٌ منهما قصته للآخر، ساعتها بالضبط، ولد أول سِكير علي أرض مصر، وباتت تنجب، منذ هذه اللحظة بالذات، آلاف السُكارى.
البيرة في مصر الفرعونية كان يشربها الجميع، الصغار والكبار، ومن اهتمامهم بها استطاعوا تبريدها بهواء الأنهار، والنبيذ المصري، كان أفضل ما يتم تقديمه للفراعة الآلهة، وحاز على قدسيَّة ما، لدرجة أنه كان يحفظ مع الأموات.
وانتشر خبر علي إحدى المواقع الالكترونية أن أعلن د. محمد إبراهيم وزير الدولة لشؤن الآثار السابق، اكتشاف مقبرة رئيس المخازن وصانعي الجعة للآلهة "موت" في عصر الرعامسة، ويدعى "خونسو – أم – حب" بمنطقة الخوخة الجبانة طيبة، بالبر الغربي لمدينة الأقصر. (ص 18)
وكان النبيذ مصاحباً للعمال الذين بنوا أهرامات الجيزة الخالدة حوالي عام (2480-2550) ق.م ووجد في إحدى المقابر أول معمل لصناعة البيرة في التاريخ، يضم أربعة أزيار لتخميرها تبلغ سعة الواحد منها 390 لتراً، يرجع تاريخها إلي حقبة " نقادة" ليكون أول معمل لتصنيع البيرة في العالم القديم، ولتحمل البيرة أول اسم مصري لها: هاكت.
ووفقاً لمعجم الحضارات المصرية القديمة طبعة مكتبة الأسرة 1996 فإن البيرة كانت المشروب القومي الشائع في مصر القديمة ويضيف المعجم في تعريفه للبيرة أنهم كانوا يصنعونها بعمل عجينة من دقيق الشعير، تُسوى في النار كالخبز، ثم يُنقع خبز الشعير هذا، وربَّما أضيف إليه البلح للتحلية، وبعد أن يختمر، يُصفَّى السائل في قدر، يقول ديودوروس: إن طعم ونكهة هذه البيرة لا يقلان في الجودة عن طعم ونكهة النبيذ.
إلا أن بعض مؤرخي الغرب يعيد صناعة البيرة في العالم القديم لقبل ستة آلاف سنة. تحديداً عند السومريين، بين نهري دجلة والفرات بما في ذلك بلاد ما بين النهرين وبابل الذين اكتشفوا التَّخمير عن طريق الصدفة، وباتو وكأنهم عثروا علي مشروب إلهي، شرب منه بطل ملحمة جلجامش إنكيدو سبعة أكواب حتي ارتفع قلبه وفي هذه الحالة غسل نفسه وأصبح إنساناً.
ولا يمكننا أن ننسى ما قاله شكسبير «أنا أموت يا مصر، فأعطوني بعض النبيذ ودعوني أتحدّث قليلًا» وذلك في مسرحية «أنطوني وكليوباترا»، وتحديدًا أثناء مشهد موت بطل الملحمة «أنطوني» يدلل بذلك علي تميز النبيذ المصري في مرحلة ما قبل التاريخ.
ولم يتطرق المؤلف إلي التشريعات الخاصة بالنبيذ، في القوانين المصرية ولا أحكامه في الشريعة الاسلامية؛ فليس هذا هو الغرض من الكتاب، فقد شرح منذ البداية أن غرض كتابه والهدف منه هو محاولة متواضعة لاستكمال التاريخ الوجداني للمصرين.
في مقهى الحرية، كانت الخمر قد استخفت برأس رجل تجاوز الخمسين، وضع زجاجة البيرة على رأسه بثبات، وظل يغني وسط الرجال والنساء:
على ورق الفل دلعني
محملش الذل دا يعني
أنا لا حيلتي ولا معايا
إلا الإزازة إلى معايا
أنا لا حيلتي ولا بيدي
غير الكاس اللي في يدي.
على ورق الفل دلعني.
التعليقات