سألوا مُعمرة فى كامل قواها النفسية والبدنية رغم تجاوز عمرها المائة عام وبضع سنوات، ماذا لو عاد لها الزمان، هل كانت ستعيش نفس حياتها بذات الطريقة التى اعتادت عليها وأوصلتها إلى هذه المرحلة؟ بمعنى آخر، هل كانت ستختار نفس الاختيارات وتقرر نفس القرارات وتتصرف نفس التصرفات؟ وفى مراجعة للنفس قالت بمنتهى الشجاعة بأنها غير نادمة على أى شىء فعلته.
ولكن لو عادت بها الحياة من أول وجديد لن تسابق الأيام حتى تكبر وإنما ستقضى كل مرحلة زمنية بكل تفاصيلها دون أن تختصرها، ستتمتع ببراءة الطفولة بكل نقاوتها، وشقاوة أيام الدراسة بكل ملابساتها، وحيوية الشباب بكل طاقته، والنضوج بكل استقراره، والأنوثة بكل اكتمالها، لن تلعب كل الأدوار فى تحد مع الحياة وإنما ستعيش بطولة فيلمها الخاص وليس هذا فقط.
فهى لن تسمح لنفسها بأن تعيش شهور الحمل فى شكوى من متاعبه وسوف تنتبه إلى كونه معجزة إلهية وستنعم بأنها جزء من هذه المعجزة فى الخلق وسبب خروج روح أخرى إلى العالم، وحين يأتى المولود بالسلامة ستراقب مراحل نموه وتطوره بهدوء وتقضى معه أوقاتاً كثيرة فى اللعب والتعلم وستحتفظ بكل هذه الذكريات الحلوة وتحكيها لأولادها وأحفادها وأحفاد أحفادها دون كلل أو ملل، لأنها عصارة السنين والخبرات.
لو عادت بها الحياة من أول وجديد ستتعلم كيف تحتمى بزوجها وتحتويه بدلاً من أن تناطحه، لأن المحبة أهم من المبارزة، ستتدرب على احتماله فى كل حالاته وتتفهم قصده الحقيقى فيما يقول ويفعل دون تكهنات غير صحيحة وسوف تتجنب المناقشات الحادة، وتختار الأوقات المناسبة لعرض مقترحاتها، وسيصلون جميعاً إلى بر الأمان والانسجام مع أولادهم الغاليين.
لو عادت بها الحياة من أول وجديد لن تغلق نوافذ سيارتها صيفاً، خوفاً من الحرارة ولا شتاءً، تجنباً للبرودة أو حتى لا يفسد الهواء الحار أو البارد تسريحة شعرها بل ستسمح للنسمات الربانية أن تتخللها بكل بساطة، كما ستدعو الأصدقاء إلى بيتها أكثر وتطمئن لصحبتهم دون ترتيبات مسبقة أو تحضيرات مزعجة تحرمها من لذة البهجة، لن تمنع نفسها من تناول نعم ربنا المتنوعة بحجة الرجيم أو ستتذوق باتزان يفيد ولا يضر.
ستأكل دون عجالة حتى لا ينتابها عسر هضم وستشارك أفراد أسرتها الجلوس على طاولة واحدة لتنصت إلى حكاياتهم وأخبارهم وأحداثهم اليومية، لأن استقرار الأسرة وسعادتها من الأولويات وسوف تستخدم كل ما هو مُخّزن ومركون دون استعمال بحجة أنه سيتم الإفراج عنه حين تأتى المناسبة.
ستخلق هى فى كل يوم مناسبة حلوة لأن كل أيام ربنا بركة لنبتهج ونفرح فيها وستمرح مع أولادها وأحفادها وجيرانها فى الطبيعة وعلى الحشائش بلا اكتراث بالبقع التى قد تلطخ ثيابها. إذا عادت بها الحياة من أول وجديد ستقلل دموعها وتكثر ضحكاتها وتدرك أخطاءها وتصححها وتنسى كل ما وراء وتمتد إلى كل ما هو قدام وتسعى نحو الغرض بكل ثقة وإيمان وفرحة فى حماية رب الكون.
ستذهب إلى فراشها إذا شعرت بالإرهاق ولن تُجبر على مجاملة أحد فوق طاقتها ولن تعطى العمل كل أوقاتها ولن تتوهم أو تدعى أنه سيتضرر إن تغيبت يوماً عنه وإذا ارتمى أولادها فى أحضانها بحثاً عن الأمان لن تبعدهم بحجة أنها مشغولة ولا وقت عندها للدلع.
لو عادت بها الحياة من أول وجديد ستعبر أكثر من مشاعرها لمن تحبهم دون خجل أو تردد وستعتذر أكثر لمن أساءت إليهم دون تكبر أو عناد وستصغى أكثر مما تتكلم. لو أنها أُعطيت فرصة ثانية للحياة، ستراها بعمق وستحياها بإصرار وستجربها بإيمان وستواصلها بثقة وستلمس كل لحظة فيها بفرح وشغف وشكر على النعمة والبركة.
الحياة هى الحضور الواعى وفهم الأولويات والقدرة على التفرقة بين المهم والأهم وقبل كل شىء الثقة فى رب الكون.
وإلى هنا انتهت رسالة المعمرة ذات المائة عام وبضع سنوات لنعى أننا نستحق الحياة الكريمة الجميلة السخية المبهجة الصالحة المُرضية الكاملة التى وهبها لنا الله. ويحضرنى كلمات السيد المسيح له المجد حين أكد على هذا قائلاً: «أتيت لتكون لكم حياة ويكون لكم أفضل».
التعليقات