من الأفكار المترسخة بداخلنا، والتى تمثل عقدة من ضمن "مجموعة العقد" المتسببة فى تأخرنا وعدم ملاحقتنا لركب التطور، ولابد لنا من البحث عن تغييرها ما دمنا نبني جمهوريتنا المصرية الجديدة، فكرة أنْ مَن عليه الأضواء مسلطة هو الأفضل.
يحدث ذلك أحيانًا لكن ليس على الدوام، يحدث ذلك أيضًا فى فترة ما بالنسبة لهذا الشخص المُسلطة عليه الأضواء وليس على الدوام إلا نسبة ضئيلة جدًا، وهذا الشخص الأول فى كل حرفة ومهنة هو "الصنايعي"، أما النسبة الضئيلة جدًا المستمرة منهم، فهم "المحترفون"، وقبل أن نحدد فاصلا بين "الصانع" و"المحترف"، لابد لنا من توضيح الفكرة، ولأن الأفكار فى حاجة دائمًا إلى أمثلة للتدليل والإيضاح، نقول لعلك صادفتَ يومًا "صنايعي" (نجار – ميكانيكي –كهربائي ..إلخ) وأمام ورشته مكدسة الأدوات أو السيارات.
وسوف أخبرك بما يحدث وأعتقد أنك صادفته وتعرفه جيدًا، فإن ذهبت مثلا لهذا "الميكانيكي" الشهير، فعليه إقبال وعدد السيارات أمام ورشته كبير، بمجرد أن تصل إلى هناك وقد طفح بك الكيل ستجده يقابلك بابتسامة عريضة ويهون عليك الأمر، سيأمر أحد عماله أن يبدأ العمل فورًا فى سيارتك، وبمجرد أن يتم تفكيك جزء ما فى السيارة يضمن عدم فرارك بها، يستدعي العامل ليبدأ فى سيارة أخرى لتظل أنت فى الانتظار بالساعات، وهكذا يضمن أكبر عدد من الزبائن، وتتكدس أمامه السيارات.
فى يوم ناقشتُ نجارًا يُنهي لي بعض الأعمال التى لا تحتاج غير عدة ساعات، فإذا به يتركها ويعمل فى غيرها، ثم يترك الثانية ويعمل فى الثالثة، المهم أنه "فتح شغل" كما يقول فى كل هذه الأعمال، ناقشته بأن لماذا لا تُنهي عمل ثم الذى يليه وهكذا، يبتسم وهو يرسم على وجهه علامات يعتقد هو أنها علامات العبقرية ويقول "ربط الزبون.. والزبون عندنا يحب مَن يتعبه ويحسسه إن الشغلة كبيرة قوي، أما لو خلصتها فى كام ساعة.. سيعتبرها سهلة ويفاصل فى الأجر"، وجهة نظر أو هى فلسفة خاصة بـ "الصنايعي" وليس "المحترف"، وجهة نظر خلقتها طبيعة الفكر الغريبة، فمن الأفضل أن يُنجز العمل فى أسرع وقت، وإنجازه هكذا ليس ضد الجودة أو بذل الجهد، إنما أنهى لك "المحترف، المحترم" عملك سريعًا ليبدأ فى عمل آخر وهكذا.
وهذا الأمر لا ينتشر فى أوساط المهن اليدوية فحسب بل فى مختلف المجالات، وبحكم عملي صادفت "صنايعية" كُثر فى الوسط الفني والأدبي، فهذا الممثل "الصنايعي" يبدأ في تصوير أو تسجيل عمل درامي وبعد عدة أيام يبدأ فى عمل جديد، ثم فى ثالث ورابع، وقد ضمن أن هذه الأعمال لن تتم إلا به، فإذا به يتأخر عن موعد تصوير هنا و"يضرب" حجز ستديو هناك، ويماطل فريق ثالث حتى يصل إليهم منهكًا مهدودًا، فيتقبلون منه أي أداء، ولا فارق بينه وبين النجار أو الميكانيكي حيث قام بـ "فتح الشغل" فى أكثر من مكان، أما "المحترف" فهو الذي يدرك قيمة الوقت والكلمة، فلا يقبل عملًا إلا بعد أن ينتهي مما بين يديه، أو على الأقل يقبل عمل آخر ويكون الفريق الأول على علم بالفريق الثاني والعكس لترتيب الأوضاع، وهذا الفنان "المحترف" لا يعطي موعدًا جديدًا على الإطلاق إذا كان مرتبطًا بموعد آخر، وتجده يأتي قبل موعده المحدد، يلتزم بأدق تفاصيل العمل، وإن كان مَن يريده فى عمل جديد ويتمسك به، فلينتظر حتى يُنهي ما قد بدأ فيه، أو يرتب أوضاعه بما يتفق معه ولا يؤدي إلى أن يخسر أحدهم، وهذا المنطق يجب أن يُطبق أيضًا فى مختلف المهن.
لا تغتر بمن عليه الأضواء مُسلطة، لا تقف فى انتظاره، اكتشف أنت محترف جديد، والمحترفون كُثر، إن بحثت وجدت. واعلم يا عزيزي أن هذا التزاحم يفتح الباب أمام النصب، نعم.. ألم تجد أن السلعة المعروضة تحت الخصم "عليها عرض" هى أسوأ السلع وصاحبها يريد التخلص منها سريعًا؟! ألم تلحظ أن "الصنايعي" المزدحم جدول أعماله صنعته غير متقنة، لأن فكره مشتت..!!
أريد أن أصل معك إلى قناعة تامة بأن هناك "محترفون" وإن كانوا بعيدًا عن الأضواء، وألا تغتر بالمزدحمة أبوابهم، لا تنساق خلف القطيع، فكثير من الخراف سقطوا من أعلى الجبل لأنهم كانوا يسيرون ضمن قطيع ولم يكلف أحدهم نفسه مشقة رفع رأسه والبحث لاستكشاف الطريق.
"المحترفون" عملة نادرة، لذا ما أن يظهر أحدهم حتى تتلقفه أيادي الخارج الذين يدركون قيمته، يوفرون له الأجواء الملائمة، ويعوضونه بالأموال التى تناسبه أيضًا، بينما نحن هنا ما زلنا نتكدس أمام "الصنايعية" نبذل على أعتابهم دمائنا مقابل أسوأ درجات العمل.
التعليقات