يحل رمضان فتسرى فى حياتنا أنوار ربانية، وتتجدد معه حياة الروح، ويغسل المسلم فيه نفسه من الذنوب، فهو شهر القرآن وموسم للعبادة، ومدرسة يتعلم فيها المسلم الصبر على الشدائد، ودورة تدريبية لممارسة الأخلاق الحميدة.. هذا التوصيف يلخص مجمل الخطاب الدينى فى رمضان، وهو أمر طيب ولكن هذا الخطاب بحاجة إلى التجديد.
إن التجديد مكون أساسى فى بنية الخطاب الإسلامى وفقا للحديث النبوي: عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها . (رواه أبو داود) ولا يستهدف هذا التجديد، تغيير جوهر الدين، وإنما يعنى إعادته إلى النقاء الذى كان عليه يوم نشأته، والالتزام بتعاليمه الصحيحة بعيداً عما قد يعتريها من شوائب أو انحرافات.
فى هذا السياق أتمنى أن يتناول الخطاب الدينى فى رمضان إلى جانب المدخل التقليدى -الذى يركز على تعاليم الدين وأحكامه بشأن الصوم- مدخلا آخر يستهدف كشف الانحرافات التى لحقت بالتعامل مع هذه التعاليم وخرجت بها عن مقاصدها الحقيقية، وأنتجت صورا من (التدين المنقوص) وأولها يتعلق بصميم مقاصد رمضان باعتباره شهرا للصيام ولكن الانحراف بهذا المفهوم جعله شهرا للطعام! حيث يتضاعف إنفاق الأسرة على الغذاء فى رمضان بل يستحوذ على أكثر من ربع ميزانية السنة كلها المخصصة لهذا المجال. ويبلغ حجم إنفاق المصريين على الطعام 60 مليار جنيه شهريا فى الأوقات العادية، بينما يرتفع فى رمضان إلى 100 مليار جنيه بحسب ما صرح به مؤخرا د.إبراهيم العشماوى رئيس جهاز تنمية التجارة الداخلية، وهذا يقودنا الى تأثير ما أسميته فى مقالات سابقة (طبائع الاستهلاك)، الذى يوظف كل الوسائل لتحويل الناس الى زبائن ويدفعهم الى المزيد من الإنفاق على السلع، بل إنه يعمد إلى خلق احتياجات غير حقيقية مستخدما وسائل الترويج المختلفة لتحويل الكماليات إلى ضروريات، لدرجة أن إحدى الشركات أعلنت قبيل رمضان بيع الكنافة بالتقسيط!!. وهذا مثال صارخ على ذلك، بفعل آليات طبائع الاستهلاك، ومنها الضغط الحثيث على جعل الكثير من المنتجات مثل الكنافة والياميش من لزوميات رمضان فى إطار سعيها لتحويل العبادة إلى سلع فيما يسمى (تسليع العبادات)،حيث يتم ربط المناسبات الدينية بشراء منتجات معينة. بدأ هذا النهج فى الاحتفال بذكرى ميلاد بعض أولياء الله الصالحين، والعجيب أن كثيرين منهم عاشوا حياتهم فى زهد، بينما تحول إحياء هذه الذكرى الى مناسبة للبذخ وامتد هذا النهج الى الاحتفال بذكرى مولد الأنبياء عليهم السلام، (مثل حلوى المولد النبوى وسهرة رأس السنة)، ثم بقية المناسبات الدينية الأخرى ومنها رمضان والأعياد.
وفى ظل الأزمة الاقتصادية العالمية وارتفاع أسعار الغذاء كان من المفترض أن يغتنم الخطاب الدينى، رمضان لتسليط الضوء على هذا الانحراف بمقاصد الشهر الكريم خاصة أننا نستورد كميات كبيرة من المحاصيل التى نعتمد عليها فى غذائنا كالقمح والفول والعدس.
التجديد فى هذا المجال يعنى ببساطة التركيز على جانبين، الأول يحث على أن نغير ما بأنفسنا اقتصاديا، بأن نجعل رمضان بالفعل شهرا للصوم، بحيث نقتصد فى استهلاك الطعام وغيره من المنتجات الأخرى، لو حدث ذلك لأصبح رمضان شهرا توفر فيه النفقات، ويكثر فيه تصدير المنتجات الغذائية من الدول الإسلامية إلى الدول الأخرى، ولصار هذا الشهر مناسبة توضح للعالم أجمع أن المسلمين يستطيعون الاستغناء عن ضروريات الحياة من الطعام والشراب تلبية لأمر الله.
أما الجانب الآخر من هذا الخطاب فإنه يستهدف التجار والمنتجين لكشف مظاهر التدين المنقوص حيث يحرص بعضهم على الصيام والقيام وإخراج الصدقات ولكن فى الوقت نفسه يمارس محرمات ويرتكب ذنوبا ومعاصى كبرى مثل احتكار السلع أو حجبها عن الناس بهدف رفع أسعارها، والغش التجارى والتلاعب فى الوزن:(رغيف الخبز نموذجا). فالخطاب الدينى هنا مطالب بأن يوضح حكم الشرع فى حجب السلع وجزاء التاجر الجشع وعقاب من يستغل احتياجات المواطنين للمزيد من التربح وغيرها من هذه الأمور التى تمس حياة الناس. بل إنى أطمح إلى أن تقود وزارة الأوقاف حملات للتوعية بهذه المعاصى تحت عناوين جذابة مثل (ويل للمطففين)!.
التعليقات