تخيل معي عزيزى القارئ أن تصادف في هذه الحياه شخصا ما يحاول بكل ما أوتي من حيل دنيئة ومكر خبيث لا يجدي ،أن يغير من نواميس الكون وأقدار الحياة كي تتوافق مع أهوائه ورغباته الشخصية، والأسوأ من ذلك تخيله ان يمضي في ذلك قدما وبسلاسة دون عواقب القدر الذي يبدع في إرساء الحقوق لأصحابها ولو بعد حين.
أتخيل أن خطايا البشر في هذه الحياة العريضة ماهي إلا ولادة طبيعية لمعتقدات وأفكار عفى عليها الزمن، ولكنها رسخت في عقول ضحلة قررت بمحض إرادتها أن ترعاها وتولي لها الأهمية لضمان بقائها وأستمرارها دون وعي كامل بعواقبها التي لاطائل لعقل أن يستوعبها .
يأخذنا الكاتب المغربي الطاهر بن جلون في واحدة من أعمق رواياته التي ترجمت الى ثلاثة واربعون لغة ، وهي تعد من أيقونات الأدب المغربي والأفريقي ، ليسطر لنا قصة فتاة جميلة أصروالدها على إلباسها قناع الذكورة منذ خروجها إلى الحياة، وذلك لعدم إنجابه الذكور، ففي ذلك إنتقاص من رجولته وذكوريته أمام عشيرته وقبيلته ، ليقرر بعد إنجاب خمس بنات متتالية ، وبعد شماتة أخوته ، أن يغير الأقدار ويلبس أبنته منذ نعومة أظافرها جلباب ذكوري ويتعامل معها كولد رزقه الله به بعد عناء السنين ، لاعتقاده الجاهلي أن إنجاب الذكور يمنحه الحياة والفرحة الابدية التي طالما تمناها طيلة حياته.
ظلت الفتاة البريئة متقمصة دور ذكوري بتوجيهات عنيفة وصارمة من أبيها وعائلتها وقبيلتها فأسموها إسما ذكوريا وتعاملوا معها كفتى حتى صارت كذلك في قرارة نفسها ، وكان العمى كليا فتخيلها أباها ذكرا وعاملها على هذا الاساس طيلة عشرين عاما وعزلها عن الناس وعن الخروج من البيت ، فصارت الفتاة بين أسرتها متيقنة في قرارة نفسها أنها ذكر وليست أنثى ناضجة على مشارف العشرين.
تأتي ليلة القدر- وهذا إسم آخر للرواية – معلنة وفاة أبيها والذي أفضى لها قبل خروج الروح بحقيقة الأمر ليعتقها من سجن الذكورة التي تحيا فيه منذ نعومة أظافرها ، وليهب لها كامل حريتها التي بدأت مباشرة في اللحظة التالية لمراسم دفن عقله قبل جسده ، لتهرب بعيدا عن قريتها معلنة العصيان والعناد على الجميع ، ولاتعرف الفتاة التي تتعرف على نفسها من جديد إلى أين تذهب خارج هذه الحدود المنيعة التي رسمها لها الأب ، ليغتصبها قاطع طريق فى رحلة هروبها ، فلا تعلم ماذا يحدث لها ولماذا ؟!! ، وتواصل سيرها الى قرية صغيرة ،لتتلقفها جلاسة حمام وتنقلها معها الى بيتها لتمارس حياة الرذيلة كما ينبغي ، بأوامر صارمة من هذه الجلاسة ، ويتطور الأمر الى أبعد من ذلك مع كل شخص تقابله في هذه القرية الفقيرة ، فتارة تتعرف على القنصل والملقب بمعلم القران ، الأعمى – ضرير القرية الذي لايرى فيها مايراه الأخرون ولكن فطرتها وأنوثتها الطبيعية تجعل من هذا الأعمى مبصرا للحقائق، فالأبواب مفتوحة للعميان ، وتارة تترك القرية لأخرى مجاورة فيعلم بها عمها ، الذي يقرر أن يأخذها ليستر الفضيحة فتقرر بمحض إرادتها أن تتخلص منه .
تتوالى أحداث الرواية في إرهاصات بعيدة المدى لايقرها عقل ولايقبلها دين أوملة ، وتتوالى الاحداث بغبرابة شديدة وعدم منطقية واضحة ، وهذا نتاج الفكر الضحل الذي رغم دفنه في التراب ظل حياً شاهدا على الأحداث ينبض بكل واقع أليم ومزر ، وكأن دفن الأجساد تمثيلية هزلية لإرضاء المجتمع المريض ليبقى الفكرالعقيم حياً يرزق ولو لم ينجب.
الأديب الطاهر بن جلون هو أول كاتب من شمال أفريقيا يحصل على جائزة الغونكور الفرنسية عن هذه الرواية عام 1987 ميلادية ، وتم كتابة الرواية باللغة الفرنسية ونقلها الى العربية محمد الشركي في أسلوب بسيط وسهل محافظا على المعاني والافكار دون أقتباسات صعبة نظرا لأن الرواية تسرد حدثا عربيا بحت وكان من الممتع نقلها الى العربية بهذ الشكل المميز دون ترجمة حرفية مرهقة.
للكاتب أعمال أخرى لاتقل أهمية عن ليلة القدر، ومنها طفل الرمال وتلك العتمة الباهرة وحين تترنح ذاكرة أمي وأن ترحل وينتمي الكاتب إلى الجيل الثاني من الكتاب المغاربة اللذين يكتبون باللغة الفرنسية.
التعليقات