لا أنكر قطعًا تعاطفى مع الفنان الكبير إحسان الترك، الذى وجد نفسه خارج الخريطة وتوقفت تماما أمامه شرايين الحياة، فاضطر لأن يستجدى العمل على الهواء من محمد رمضان، فمنحه دورًا فى مسلسله الجديد (العمدة). الفنان الكبير عندما تشاهده فى الشارع ستتعرف عليه، غالبًا لن تتذكر اسمه.. ستسأله: ( فينك يا أستاذ؟).. ولن يملك إجابة. قال إحسان إنه لا يعمل، لا هو ولا جيله، وتراكمت عليه الديون ولا يجيد أى مهنة أخرى.. فماذا يفعل؟.
علينا أن ننظر للقضية فى الدائرة الأوسع.. هل حقا توجد مؤامرة أو حتى خطة ممنهجة كما نقرأ أحيانا لاستبعاد الكبار؟
الدراما التليفزيونية عنوانها العلمى (دراما العائلة) بعناصرها العمرية المختلفة (الابن والأب والجد). ستظل هناك مساحة للكبار، قد تتقلص ولكنها مستحيل أن تختفى، وسيظل أيضا هناك من هو مطلوب فى العمل وتنهال عليه العروض، وفى المقابل من ينظر للسماء ليلا ولا يجد أمامه لملء وقت فراغه سوى أن يَعدّ النجوم، ثم بعدها يعيد العَدّ.
الفنان عادة يطرق أولًا كل الأبواب لطلب العمل بطريقة تحفظ ماء وجهه، ويلجأ أيضا للنقابة.. قد يصمت بعدها ويجتر أحزانه، أو يفعل مثل إحسان.. ولكن ماذا بعد نهاية التصوير؟، ما الذى يضمن أن هناك عرضًا آخر؟.. ثم الأهم، ماذا عن الآخرين؟، هل يكررون نفس السيناريو؟.. وإذا نجح مرة، فهل ينجح مجددا، هل تنتهى القصة دوما بصورة تجمع بطل العمل بالفنان الذى تنكرت له الأيام؟.
ماذا عن المئات الآخرين الذين لا يجدون فرص عمل، يمارسون الفن بكل أطيافه: التصوير والمونتاج والموسيقى والمكياج والتأليف والإخراج؟!.. ستظل هناك شكوى لا تتوقف. تابعنا قبل نحو ثلاث سنوات الممثلة مها أحمد عندما أعلنت أنها طلبت من أحمد السقا أن يجد لها دورًا فى مسلسل (نسل الأغراب)، وبعدها اعتذرت لأن الدور لا يليق بها، ولم تكتف بهذا القدر بل وجهت له ومن شاركه البطولة أمير كرارة اللوم على الهواء.
الحل يجب أن يظل جماعيا، يستطيع النقيب مخاطبة شركات الإنتاج، النقابة لا تملك قطعا أن تصدر قرارات ملزمة للجميع بعدالة توزيع الأدوار، ولكنها فقط تذكّر شركات الإنتاج بعدد من الأعضاء الغائبين عن الساحة. يحكم المنظومة قانون العرض والطلب، ومن هو مطلوب الآن لن تجده بالضرورة فى الغد.. لديكم مَثَل صارخ إسماعيل ياسين، عندما اضطر لإرسال خطاب مفتوح لوزير الثقافة نهاية الستينيات يطالب بالعمل، بل كان يقول فى كل أحاديثه: يعيبون علىَّ أننى عدت لتقديم المونولوج فى شارع الهرم، ولم يسألنى أحد كيف أستطيع مواجهة متطلبات الحياة؟.. وعندما ضاقت به سبل الاستمرار فى ملاهى شارع الهرم، ذهب إلى ملاهى (شارع الحمرا) فى بيروت، لعل الجمهور يرحمه من هذا النداء الجارح بعد كل نكتة: (قديمة يا سُمعة).
يستحق محمد رمضان التحية لأنه استجاب لنداء فنان كبير، ولكن ستظل المشكلة تتفاقم، جزءٌ منها سببه الكسل الذهنى، أغلب المخرجين وشركات الإنتاج يكررون الفنان الذى شاهدوه فى عمل ناجح ولا يُجهدون أنفسهم فى البحث عن آخر ابتعد عن الحلبة لأسباب خارجة عن إرادته. هل أدين فنانًا يصرخ من الألم، أم ندين الزمن الغادر الذى يدمى بأنيابه الحادة أهم صفة فى الإنسان وهى الكبرياء؟!. أستعيد بيت شعر كامل الشناوى: (أنا لا أشكو ففى الشكوى انحناء/ وأنا نبض عروقى كبرياء)!.
التعليقات