تصريح عابر نُشر عبر وكالة الأنباء الفرنسية، ونشرته "لوفيغارو" الفرنسية لـ"روبو ليانج" رئيس بيت دانس (ByteDance)، الشركة الصينية المالكة والمُطورة للتطبيق الأشهر "تيك توك"، حيث وجه رسالته لموظفيه، قائلًا فيها: "ثقة الجمهور، التي أخذنا الكثير من الوقت والجهد لبنائها، ستتقوض بسبب سوء سلوك حفنة من الأفراد"، يقصد هنا بحفنة من الأفراد مجموعة من الموظفين داخل "تيك توك".
وتعود القصة إلى صحفيين في "الفاينانشيال تايمز" البريطانية، نشروا موضوعات تتعلق بأنشطة "تيك توك"، واختراق الخصوصية، فقررت الشركة تكليف مجموعة من الموظفين، للبحث عمن سرب تلك المعلومات إلى وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية، فتسلل هؤلاء الموظفون إلى البيانات الشخصية الخاصة بالصحفيين على حساباتهم في "تيك توك"، ومنها الموقع الجغرافي بالوقت والتاريخ، وقارنوها ببيانات الموظفين المشكوك فيهم داخل "تيك توك"، لمعرفة من منهم التقى بالصحفيين.
وعندما تم اكتشاف الأمر، اعترفت "تيك توك" بالتجسس على الصحفيين، ووصلوا إلى معلومات حساسة تخترق خصوصيتهم.
بيانات المستخدمين في وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت سلعة تُباع وتُشترى افتراضيًا، فنحن فعليًا لا نملك حقوق أنفسنا، وهذا ما يُفسر محاولات المسئولين الأمريكيين مؤخرًا حظر تطبيق "تيك توك" من الهواتف الذكية الحكومية، بعد أن أصبح يُشكل خطرًا حقيقيًا، رغم أنه بات في مقدمة التطبيقات الأكثر شعبية في العالم، وقد كانت الهند في مقدمة الدول التي حظرته بالفعل، مع أكثر من ٥٠ تطبيقًا آخر، وبعد أن حقق التطبيق أكثر من ملياري مرة تحميل، ٣٠٪ منها في الهند.
ما سبق ليس أكثر من تمهيد يوضح حجم قدرة "تيك توك" على اختراق خصوصية المستخدمين، أما التالي فسوف يوضح حجم تحكم "تيك توك" في التأثير على توجهات المستخدمين، وهذه هي القضية الأهم، ولو عقدنا مقارنة بين نسختي "تيك توك" في الصين، والدول الأخرى، والتي نستطيع اختصارها في السؤال التالي، هل تسعى "تيك توك" لجعل أطفالنا أغبياء؟
وهذه القضية متداولة منذ أشهر، بالطبع في وسائل الإعلام الغربية فقط، وأعادها للظهور مرة أخرى، تريستان هاريس، الموظف السابق في شركة "غوغل" خلال لقائه في برنامج "٦٠ دقيقة" الأمريكي، والذي أكد أن نسخة "تيك توك" في الصين مختلفة تمامًا عن النسخة الأمريكية وبالتالي بقية دول العالم، ففي الصين تُعرض لمن هم دون ١٤ سنة تجارب علمية يمكن تنفيذها في المنزل، أو جولات في المتاحف، أو مقاطع فيديو وطنية وتعليمية، ويستطيعون أيضًا التحكم في أوقات الاستخدام، فعلى سبيل المثال لا تستطيع أن تستخدم "تيك توك" في الصين لأكثر من ٤٠ دقيقة فقط خلال ٢٤ ساعة، وهذا الإصدار من "تيك توك" غير متاح لبقية دول العالم، لأنهم يعرفون حجم تأثير التكنولوجيا على الأطفال والشباب، وقال هاريس "إنهم يعطون لأطفالهم السبانخ، ويصدرون لأطفالنا الأفيون".
ويؤكد ذلك دراسات أجريت في الصين والولايات المتحدة الأمريكية، عندما سألوا الشباب، ما هي الشخصية المُلهمة بالنسبة لكم في المستقبل؟ وكانت الإجابة في أمريكا "شخصية مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي"، وفي الصين كانت الإجابة "عالم" أو "رائد فضاء"، وطبعًا لا نحتاج لإجراء نفس الدراسة في مجتمعاتنا العربية، لنعرف من الذي يُلهم شبابنا في المستقبل؟ فمن المؤكد أننا جميعًا نعرف الإجابة الصادمة لهذا السؤال.
فتلك المنصات تمثل المخدرات الحقيقية في هذا العصر، وإذا كان هناك علاج للإدمان والمخدرات، فإنه لا يوجد علاج لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي السلبي على أطفالنا وشبابنا غير الوقاية فقط، فتأثير "تيك توك" على سبيل المثال فاق تأثير "غوغل" و"فيسبوك" عام 2021، ويتوقع خبراء أن يصل عدد مستخدميه نهاية ٢٠٢٢ إلى 1.8 مليار مستخدم.
وطبقًا للخوارزمية التي تحكم تطبيق "تيك توك" في جميع دول العالم باستثناء الصين، فالتطبيق قائم على فكرة التمرير، بمعنى أنك تنتقل من فيديو لفيديو بشكل استرسالي، لا ينقطع، لأن التطبيق يستطيع أن يتنبأ بما يجذب انتباهك، ويجعلك تدخل في دوامة لا تنتهي.
وهذا ما أكدته الدكتورة نيا ويليامز، الباحثة في جامعة بانجور والمتخصصة في الصحة العقلية للأطفال، لبي بي سي، حيث أشارت إلى أن تنسيق الفيديو "القصير والحلو" من "تيك توك"، مصمم لإنتاج الدوبامين، مع كل مقطع فيديو، مما يحول المستخدمين إلى مدمنين، والدوبامين عبارة عن مادة كيميائية أو هرمون ينتجه جسم الإنسان بشكل طبيعي، ويعزز الشعور بالسعادة، ويعتبر أيضًا ناقلًا عصبيًا، لذلك في حال إنتاجه بمعدلات أكبر من احتياج الإنسان عبر مؤثرات خارجية، يتحول إلى حالة من الإدمان، وهذا بالفعل الذي تستهدفه خوارزميات "تيك توك"، وكذلك كافة وسائل التواصل الاجتماعي، فمهما كان ما تبحث عنه، ستظل الخوارزمية الرئيسية هي مقاطع الفيديو التي تُحبها، والتي يعرفونها جيدًا، لأنها تُضفي عليك نوعًا من السعادة، من أجل إفراز كميات أكبر من الدوبامين، ولن تخرج من إطار كونها فيديوهات مُضحكة أو مُخلة، ولا تُحفزك في النهاية على أي نوع من أنواع التفكير، فالخطوة الأولى هي تخدير العقل بما تحب أن تُشاهده، وبالتالي الاستسلام، والخطوة الثانية هي إفراز الدوبامين، وبالتالي الإدمان، وهذا ما دفع "تيك توك" لاختراع نسخة في الصين مختلفة تمامًا عن النسخة المتاحة في كل دول العالم، بما فيهم بالطبع النسخة العربية، والتي تُعد الأسوأ على الإطلاق.
نحن أمام صناعة تُقدر بمليارات الدولارات، وأنت عزيزي القارئ السلعة التي تُباع وتُشترى في هذه الصناعة.
من المؤسف أن ما قرأته الآن لم يتناوله غير الإعلام الغربي، ولو بحثت باللغة العربية عن تلك القضية لن تجد موضوعًا واحدًا يتحدث عنها، أو يُحللها، وهذه قضية أخرى يحتاج التطرق لها إلى سلسلة من المقالات.
كلمة أخيرة قالها الكاتب والمؤرخ النرويجي كريستيان لويس لانغ:
التكنولوجيا خادم مفيد، لكنها سيد خطير.
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات