اخترت العِرْفَان نهاية العام الماضي وبداية عام جديد، يقول الله تعالى "أما بنعمة ربك فحدث".
لعلنا ببعض هذا الحديث نتطلع لعام أكثر إشراقًا وحنانًا وجودة، يذهب بنا إلى حيث تتحقق أحلامنا ويصير واقعنا رطب لين مثمر جَوّاد بالمبهجات.
إذا كان جلّ ما بَقِيّ من ذكريات في قلبك هو الجمال، فلابد لحكايتك أن تروى، لأنها قد تكون أجمل ما يجود به الزمان.
أول مرة والدي رحمه الله رأى أمي كان معيدًا في كلية الطب، وأستاذه وهو جدي رحمه الله كان يُفَضْلُه ويحبه كثيرًا لتفوقه وطيبته وأصله. أراد جدي أن يزرع نخل في حديقة منزله، فما كان من التلميذ الذكي الحبوب إلا وقد لبى النداء.
عندما جاء أبي يزرع النخل في بيت أستاذه، بحكم إنه كان من البحيرة ويمتلك أرضًا من النخل والجوافة، أخذ والدتي من يدها ووضعها في الحفرة المعدة لغرس النخلة.
كانت أمي ما زالت بعد صغيرة في المدرسة، تزوجوا بعد تلك الواقعة بعدة سنوات.
أحيانًا تتيح لك الأقدار الغرس الطيب، أصحاب النفوس اليُمنى يعرفون كيفية الصبر حتى يطيب الثمر.
بيّنت بعض الدراسات أن هناك تأثيرا لإغلاق اليد بقوة على المشاعر، إذ أن قبض اليد اليمنى يُحرّض مشاعر السعادة والحماس، بينما قبض اليد اليسرى يزيد من مشاعر الانطواء والتوتر والخوف.
وكان أبي كلتا يديه يُمنى!
ترتيب الله لأقدارنا مذهل بحق، لمن آمن أن الله خلقنا لنسعد لنتعلم ونرتقي
أمي سيدة جميلة أنيقة ومدللة. كان جدي يحب ابنته كثيرا لكنه كان مؤمن بقيمة التعليم والعمل، فهو العالم الجليل الحاصل على وسام الجمهورية في الكيمياء الحيوية
تخرجت بناته الثلاث أطباء، من كان يأتي
لها الشخص المناسب كان يزوجها في بيته وتبقى معه هي وزوجها وأولادها إلى أن تنتهي من دراستها ثم تذهب لبيتها وكان ذلك شَرطه الوحيد للزواج المبكر
تلك الحلوة الجميلة أمي أصبحت أيضا مدللة في بيت زوجها
إن من أسوأ ما يفعله بعض الرجال هو تغيير حياة زوجته خلاف ما نشأت عليه
لم يفعل أبي ذلك، كان كريمًا حنونًا ورأيت
منه رحمه وجمال ودلال وراحة ومحبة تشتهيهم أي زوجة
الصحبة الأنيقة وحسن الجوار جليسا البيوت العامرة. الزوج الودود الذي يجيد البقاء ويعطر ظلال الحياة بقوة وبهاء الحضور يقيم في قلب زوجته للأبد.
ماذا فعلت السيدة الجميلة؟ عاشت معاه على الحلوة والمرة، نعم أحبته بجد وصانت بيتها، وامتلكت مهارة تسيير الحياة
ليس هناك كتالوج لصناعة الحياة الزوجية الناجحة، ولكن بالطبع صحة البيوت لا تُقام إلا على التربية الحسنة وجودة الأرواح.
أمي لا تجيد الطبخ وليس لها في أعمال شئون البيت، لكنها أجادت بالطبع السير الهادئ وحسن التجاور في الدنيا وتشريق الأيام
ثم حل وقت السداد، وهو الوقت الذي يسحب فيه المرء من رصيده لدى من أحب
فقد مرض أبي حبيبي مرض طويل جدًا وبقي طوال خمسة وعشرون عامًا طريح الفراش، صابر محتسب لم يتضرر من قدر الله ولم أسمعه يتألم
طرقت قدميّ المودة والرحمة دارنا، جاء دور العطاء، جاء وقت السند الجميل، وجاء وقت فرز الأنقياء
تعلمت من أبي الكثير من الجمال والقوة
،والصبر وحسن مجاورة الأحزان
لكني تعلمت من أمي كيف تكتسب المرأة لقب بنت الأصول.
سمعت من أهلي منذ الصغر أنهم يطلقون علي أمي لقب بنت الأصول لم أدرك وقتها المقصود به، لكني كنت أطرب لسماعه حتى جاء اليوم الذي تعلمت فيه ماذا يعني أن تكوني بنتًا للأصول
كان لأبي تاريخ ورصيد كبير عند أمي، أما أمي أطال الله عمرها، فكانت تحدثني بأنه "لو كان باباكي عظم في قُفة فأنا أحبه وراضية به"
ظلت تلك السيدة الجميلة مدللة من أبيها وأمها وزوجها ما يقرب من نصف قرن من الزمان. لم يمنعها كل هذا الدلال من أن تقف لما يقرب من ربع قرن آخر من الزمان حاملة زوجها بين ضلوعها وحنايا قلبها.
هنيئا لأجدادي حسن تربيتهم، هنيئا لأبي حسن جواره لنا، وهنيئا لأمي الحبيبة وفائها مُحبة وجمال تواجدها
لقد استحقت لقبها بكَدّها، لتظل في نظري أكثر من يستحق الإشادة والتقدير.
كنت محظوظة بجمال أبي وسأظل محظوظة برقي أمي ممتنة لها ما حييت.
إلى أن نلقى الأحبة بلا فراق، ربي استودعك غاليتي فلا تريني فيها سوى فضلك، فلا تُضام ولا تشتكي ما أحييتها، واجعل طريقي إليك يمر من خلالها، لأكُن لها على الدوام كما تُحب وتَرضى.
التعليقات