كانت شادية تخشى (الميديا)، لن تجد لها أحاديث مرئية أو مسموعة أو مكتوبة إلا القليل النادر جدا، كانت شادية تعتقد أنها لم تُخلق للكلام ولكن للغناء والتمثيل، إلا أنك لو تأملت تلك الأحاديث النادرة ستكتشف مدى ذكائها وخفة ظلها وتلقائيتها. تزوجت شادية مطلع الستينيات من الكاتب الصحفى الكبير مصطفى أمين، وعندما ألقى القبض عليه، كانت شادية معه، وهذه قصة أخرى.. وأسبوعيًا كانت شادية تلتقى بأصدقائه من كبار الصحفيين أمثال كامل الشناوى وأنيس منصور وموسى صبرى وأحمد رجب، ورغم ذلك، ظلت شادية تتعامل بحذر مع الإعلام.
أنا مثل كثيرين حاولوا التواصل معها أكثر من مرة، وباءت محاولاتهم بالفشل، وفقدتُ الأمل، إلا أن القدَرَ كان يحمل لى مفاجأة لم تخطر على بال.
فى مطلع الثمانينيات، كنت فى زيارة تعودت عليها أسبوعيا لمنزل الموسيقار الكبير محمود الشريف، علمت منه أنه سيستقبل بعد قليل شادية لإجراء بروفة أغنية (غربتنى الدنيا عنك)، فقلت له سوف أستأذن حتى لا أفسد عليكما السهرة، والحقيقة أننى كنت أعلم مدى حساسية شادية فى التعامل مع الصحافة، ولكن الشريف قال لى على الأقل انتظر حتى أُعرّفك على شادية.
شادية تعتبر بيت محمود الشريف بيتها الثانى، والسيدة (فوقية) المشرفة على منزل الشريف كانت قريبة جدًا منها وترتاح إليها، وفى نفس الوقت كانت شادية تحب ما تعده فوقية من أكلات شعبية، وهذه المرّة تصدر المشهد (لحمة رأس)، وباقى التنويعات فشة وكرشة وممبار.
لم أتوقع أن شادية تتعاطى ببساطة مع ما نطلق عليه (حلويات اللحوم).. بمجرد دخول شادية، قال لها الشريف: (طارق ده ابنى، وأعمامه كامل ومأمون الشناوى، وكمان صحفى ولكنه هذه المرة ابنى فقط).
ووصلت الرسالة التى أرادها الشريف وقالت شادية كلاما جميلا عن أعمامى، واستأذنت فى الانصراف، حتى لا أفسد بروفة العود التى تسبق عادة بروفة الفرقة، وقالت شادية: «لو عايز تسمع على شرط ما تكتبش»، ووعدتها، والتزمت نحو 40 عاما، وأظنها فى عُرف العلاقات الإنسانية كافية جدا، والغريب أن شادية رغم سعادتها باللحن وكانت تردد أجزاءً منه بصوتها على العود مع الشريف، وبين كل مقطع وأخر تُثنى عليه، إلا أنها فى نهاية الأمر اعتذرت عن عدم تسجيله، وكان من نصيب ياسمين الخيام، ولم يحقق مع الأسف أى قدر من النجاح.
محمود الشريف هو صاحب مئات الألحان الناجحة لكبار المطربين، وعلى رأسهم قطعا شادية التى أخذت القسط الأكبر، تليها فى العدد ليلى مراد، ولكن عبدالمطلب هو أكثر المطربين الذين تغنوا بألحانه.
لم أشأ أن أعرف من الشريف لماذا تراجعت شادية عن تسجيل (غربتنى الدنيا عنك)، لإحساسى أن مجرد الإشارة بالسؤال سيسبب حرجًا وجرحًا للشريف.
ورغم ذلك، فإن علاقة الشريف لم تنقطع بشادية حتى رحيله.. رغم اعتزالها، ظل بالنسبة لها يلعب دور الأب، الذى أطلقت عليه اعتزازا بفنه (خوفو الموسيقى الشرقية).
بعد نهاية البروفة، بدأت فوقية تضع الأطباق على المائدة بمختلف الأصناف، وبكل رقة وعذوبة أصرت شادية على أن نجتمع معا على تلك الأكلة الحرّاقة، ولم أنشر شيئا عن هذا اللقاء، والحوار الذى دار بين الشريف وشادية كان وسيظل أيضا ضمن تلك الأسرار.. فقط أسجل الآن بساطة شادية وإحساسها الراقى وترحيبها الدافئ الذى لا يزال يسكننى.
أمس، مرت ذكرى رحيل شادية، ووجدت فى الذاكرة ما يستحق أن يُروى عن الإنسانة شادية، لأن الفنانة شادية لا تكفيها مجلدات!!.
التعليقات