من أعلى الروج تجلَّى باعترافات إنسانية مفعمة بالصدق، تسلق شجرة الذاكرة محتضنا أفكاره ومشاعره ودمه ودموعه وابتساماته، ولم تسقط منه ورقة واحدة دون مكاشفة خالصة، قدم سيرته الذاتية فوق المذبح قرباناً لغفران الخطايا والأحزان ونال الميلاد الجديد.. كل هذا وأكثره وأقصاه مُوثق فى أحدث أيقوناته الأدبية «نصيبى من الحياة»، الصادر عن الدار المصرية- اللبنانية.
يُحكى أنه كان البِكْرى الملقب بالفصيح الفضولى لكثرة استفساراته، طفولته كانت غنية بالخيال وفقيرة فى الواقع، تذوّق معنى الطبطبة من صدر والدته، وتجرع مضمون الخشونة على يد والده، كانت الأم تمنحه الحنان، وكان الأب يزرع بداخله الصلابة، وظل على هذا المنوال مُحاطاً بالحنية فى الخفاء، ومُحاصراً بالجدية فى العلن، بأحاسيس مرتبكة متحفظة تتأجج من طرف واحد حتى قابل الغالية آمال العمدة، فانقسم الحب على نصفين، فى البدء كانت الكلمة عنوانه، كان يرغب أن يكون مختلفاً ومؤثراً بحضارة، وكانت القاهرة الساحرة بالنسبة له قِبْلة يحلم بالتوجه إليها، متجاوزاً عتبة بنى سويف التقليدية إلى تنوع أشمل للثقافة والفكر والأدب.
هذه الثلاثية المتكاملة للإبداع، التى من خلالها عشق سلاسة بهاء، وبلاغة هيكل، وفلسفة موسى، وحدوتة غانم، وتحليل التابعى، وثراء كامل الشناوى، وتعلم الانطلاق فى المعانى من طاهر أبوزيد، والجرْس الموسيقى من جلال معوض، والعفوية النقية من فهمى عمر، حتى صار هو ذاته مسحراتى الكلمة، واجه الموت المحقق فى هونج كونج 1964 وفى القاهرة 1992، وأنقذته العناية الإلهية، كل هذا لم يثنه عن المضى فى طريق السؤال الجدلى وصولاً إلى إجابة شافية، ومن هنا بدأ محاوراً مسموعاً، ثم مقروءاً، ثم مرئياً، وتحمل المسؤولية الفكرية لآلاف البرامج الإذاعية من إعداده وتقديمه، إضافة إلى فوازير رمضان الإذاعية، التى قدمها على مدى عشر سنوات.
كما ساهم فى صناعة أسماء حين قدمها فى برامجه، كسميرة الكيلانى فى «نصف ساعة من وقتك»، و«نجمك المفضل» و«القمم» مع ليلى رستم، و«عزيزى المشاهد» مع أمانى ناشد، و«تحت الشمس» مع سلوى حجازى، و«الغرفة المضيئة» مع لبنى عبدالعزيز، و«أنا المصرى» مع سهير الإتربى، و«النادى الدولى» مع سمير صبرى، هو أول من عرّف المشاهدين بزويل والبرادعى وأغلب فرسان هذا العصر، صحيح أنه حصد الاهتمام والتقدير من كبار شخصيات الإعلام، بدءاً من الوزير عبدالقادر حاتم، ثم جمال العطيفى، ثم أمين هويدى، حتى عصر صفوت الشريف، لكنه أبداً لم يستغل الثمار لشخصه وإنما سخّرها لمهنيته، التى كانت دوماً تقوده للاستفادة من الأخطاء والسعى إلى التطور والإصرار على النجاح، ولم يشغله النجاح عن المواصلة ولا اهتزت عزيمته جراء فشل، بل كان يمتثل لضوء الفهم ويكافح حتى وصلت شهرته إلى عمق البلاد العربية، واحتل موقع الريادة فى سوق البث والنشر بأعماله المتفردة «أسماء لامعة، كندا حلم المهاجرين، للأذكياء أقول، هؤلاء حاورتهم فى الفن والسياسة، صديقى الموعود بالعذاب، عاصفة على غالى، أطول قصيدة اعتراف لنزار قبانى»، «فتافيت امرأة» لسعاد الصباح، «هيكل الآخر»، «كلام مفيد»، ومن قبلهم نادية عابد التى حوّلها من باب أسبوعى يضم شجونه إلى كتاب له يحمل اسم «وجدانيات فى زمن الجفاف».
وحين أراد أن يتلفز الصحافة قدم مجلة تليفزيونية تحسست نبض الشارع وسماها «حديث المدينة»، وهو أول وأقدم «توك شو» حى فى الوطن العربى امتد لعشرين عاماً، ومن بعده ظهرت البرامج الليلية الحالية ونجومها الذين هم تلاميذه شخصياً. هذا الكيان المفيدى الفوزى أول من واجه الفساد فى مقالاته، منادياً بالإصلاح والتغيير فى برامجه، راصداً الإهمال، وكثيراً ما حُذفت له حلقات لجرأتها فى التناول، كالتحقيق الذى أجراه عن جزيرة آمون، ومصنع أجريوم، وحريق المحلة الكبرى الذى كان يرى أنه بروفة للعصيان المدنى، وهو الأمر الذى دفعه لإرسال خطابات للرئيس مطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، لأن البلد يغلى- على حد تعبيره- وذلك قبل الثورة الينايرية بـ18 شهراً، وما فعله من وحى ضميره الذى ينتمى للوطن قلباً وقالباً، تحليلاته هى التى نبهت إلى أن التحول الديمقراطى فى البلد سيفرض حالة من اختلال المعايير، وأن الثورة ستسقط فى كمين الائتلافات وسيتم اختطافها بشعارات متطرفة هذا الكتاب حقاً شهادة للتاريخ الماضى والآتى، يكشف خلاله الراوى مفيد فوزى عن ذاته الآدمية، وكيف عاش داخل محمصة بُن الحياة وتعلم وتألم وضحك وبكى، ثم انفرجت كل همومه بالبوح، ورغم حكمة السنين لايزال يواجه الغدر ببساطة ويقابل سواد القلوب بسماحة، ويقاوم حزب أعداء النجاح بنجاح أكبر، وخلاصة فلسفته التى توصل إليها عبر مشواره الثرى أن القوة هى الاستغناء..
وأخيراً لو لم تكن أبويا لوددت أن تكون أبويا.
التعليقات