انتبه قلبى لهذه الرسالة الإنسانية شديدة الخصوصية فى محتواها، وعظيمة العذوبة فى معانيها، وهى ليست مخاطبة عابرة يوجهها أب فى خريف العمر إلى ابنه الوحيد الذى هو فى مقتبل العمر، وإنما وصية تهز الكيان وتفتت الفواصل وتجدد الوصال، فيتدفق الأب قائلًا:
«ابنى الغالى، ها أنا قد أصبحت عجوزًا بهمومى، وغير منطقى فى تصرفاتى أغلب الأحيان، وقد وصلت لمرحلة من الوهن أطالبك فيها بأن تعطينى بعض الوقت وبعض الصبر لاستيعابى، إذا ارتعشت يدى وسقط طعامى على صدرى وتعثرت فى تغيير ملابسى فتحلَّ بالاحتواء، وتجلَّ بالتحنن، وتذكر سنوات مرت وأنا أعلمك آداب الطعام وأناقة المظهر، وهو ما لا أستطيع فعله اليوم، وإذا حدثتك بكلمات مكررة وأعدت عليك تفاصيل ذكرياتى فلا تغضب وتمل، فكم كررت من أجلك قصصًا وحكايات فقط لإسعادك وإرضائك، كنت دائمًا تتداخل فى مشغولياتى وتفرض إرادتك الطفولية علىَّ، وكنتُ أرضخ حبًا فيك وطوعًا لك فحاول ألا تقاطعنى الآن واترك لى مساحة للرفض أو الاعتراض دون جدال، ولا تسخر منى إذا لمست جهلى وعدم فهمى لأمور جيلك وعصرك، فأنا آتٍ من زمن الروقان. كن أنت عينى وعقلى كى ألحق بما فاتنى ولا أقف محلك سر عاجزًا عن التعاطى، وتذكر أنى علمتك كيف تواجه الحياة وتميز بين الحق والباطل، فكيف تأمرنى اليوم بما يجب وما لا يجب؟!
لا تتأفف من ضعف ذاكرتى وبطء كلماتى أثناء محادثتك لأن هدفى من المحادثة الآن هو أن أسمع صدى صوتك أكثر من تبادل المعلومات.
وعندما تخذلنى قدماى فى حملى إلى المكان الذى أريده فكن عطوفًا معى، وتذكر أنى قد أخذت بيدك كثيرًا لكى تستطيع أن تمشى فلا تستحى أبدًا أن تأخذ بيدى اليوم، فغدًا ستبحث عمَن يأخذ بيدك.
فى عمرى هذا أعلم أنى لست مقبلًا على الحياة كسابق عهدى، اعتذاراتى عن التفاعل عديدة وغير مبررة، فكُن معى ولا تكن علىَّ، وإذا أخطأت فى حقك يومًا فاعلم أنى لم أكن أريد سوى مصلحتك، ربما قيدت إرادتك وسيطرت على خيالك ووضعتك تحت المراقبة الأبوية سنوات طوالًا بدافع الخوف، فاغفر لى غفلتى عن حقك فى الحياة أن تعيش كما تريد أنت لا كما أريد أنا.
ابنى الحبيب أنت عمرى اللى ابتدى بنورك صباحه فلا تحرمنى صحبتك».
هذه وصية كلٍّ منا لأحبابه المحيطين به، وصية تناجى الرفق لا الشفقة، تغالب البر عن الواجب، فالكبار ليسوا أرقامًا فى سجلات وإنما تاريخ من الخبرة والتجربة. الكبار ليسوا سابقين فى المكانة والموقع وإنما حاضرون فى القيمة والقامة، الكبار ليسوا متقاعدين على المعاش وإنما مشاركون على قيد الحياة، الكبار ليسوا خارج نطاق العصر وإنما هم عصر من الفنون والآداب والأخلاق والأصالة والرقى، ولا غنى عنهم، احترامهم مقدس، وتكريمهم التزام، ومرجعيتهم الصواب، هم تاج على الرؤوس، ووسام على الصدور، وبركة دعائهم مقتدرة مقبولة وفعالة، فلا تحرم قلبك نعمة رضاهم.
التعليقات