ظل لشهرين يتحدث مع خطيبته عن الروابط المشتركة بينهما وواجبات وحقوق الزوجين كما أرستها تعاليم الدين والتقاليد والأعراف، ويحاول وضع افتراضات لنوعية المشكلات التى قد تحدث وكيفية التغلب عليها، لدرجة الاتفاق على آلية لحل المشكلات المحتملة تجنب الطرفين تفاقم تداعياتها، بل تطرق الحديث إلى أهمية التأهيل لتأسيس الأسرة ولو تطلب الأمر اجتياز رخصة زواج عبر دورات تدريبية، فضلا عن استقراء أبرز أسباب الطلاق، لتفاديها.
المفاجأة أن بعد كل ذلك أرسلت خطيبته فيديو له مدته 4 دقائق من تلك النوعية الرائجة على يوتيوب، يتحدث فيه شخص مجهول عن شروط الزواج الناجح مختزلا مقولات فضفاضة ومتجزئا نصوصا دينية على طريقة (ولا تقربوا الصلاة) ضاربا بعرض الحائط تعاليم الدين والأعراف الاجتماعية، وهى مقتنعة بأن ما جاء فى الفيديو هو المعايير الصحيحة للحياة الزوجية الناجحة!! هذه القصة التى ذكرها صديق لى مثال لملايين المتابعين لوسائل التواصل الاجتماعى الذين لا يعرفون شيئا عن الخلفية المعرفية والثقافية لأصحاب هذه الفيديوهات وليس لديهم وعى بالسؤال عن مصدر المعلومات التى يستند عليها أولئك المتكسبون منها الذين يمطروننا كل يوم بمقاطع جديدة حول كل شيء، واضعين فى اعتبارهم إرضاء الزبون بأى شكل للحصول على المزيد من الإعجابات لجلب الإعلانات ومن ثم العوائد المادية.
وبطلة القصة نموذج لملايين المشاهدين الذين لم يقرأوا الخبر الذى نشره عدد كبير من وسائل الإعلام العالمية حول قيام أكثر من 80 جهة حول العالم ـ منها مؤسسات إعلامية ومنظمات دولية، مثل فول فاكت وواشنطن بوست ـ باتهام يوتيوب بأنه منصة رئيسية لنشر الأكاذيب.
مقطع اليوتيوب الذى يتحدث عن شروط اختيار الزوجة، ومثلها الفيديوهات التى تتناول كل شيء بدءا من (أسرار قلى البطاطس المقرمشة) وحتى (تعليم مهارات الذكاء الاصطناعى فى دقائق)!!، غالبيتها تعبر عن أحد وجوه صناعة التفاهة التى تتم بشكل ممنهج ليس فقط عبر شبكات التواصل الاجتماعى أو بعض المؤسسات الإعلامية وإنما فى نواح عديدة من الحياة مما جعل عالما كبيرا هو الباحث والأكاديمى الكندى آلان دونو، يؤلف كتابا بعنوان (نظام التفاهة)، يحذر فيه من المدى الذى وصلت إليه صناعة التفاهة حيث صارت تمتد إلى مختلف المؤسسات فى الدول الحديثة، بما فيها الهيئات البحثية وحتى الجامعات والمدارس وكل مفاصل القطاع المعرفى، وما يرتبط بالاقتصاد والتجارة والسياسة والثقافة والإعلام.
وينبه إلى أسس نظام التفاهة ومرتكزاته المرتبطة جوهريًا بالنظام الرأسمالى، الذى يستخدم التفاهة كأداةً لزيادة رأس المال. ويولى آلان دونو اهتماما كبيرا بخطورة اختراق هذه الظاهرة للمؤسسات التعليمية والعلمية لأن هذه المؤسسات، مسئولة عن توفير ما تحتاجه بقية القطاعات من موظفين وخبراء سياسيين واقتصاديين ومعلمين، من جهة، ومدها بما تحتاج إليه من منتجات معرفية من جهة أخرى. ومن ثم تستمر عجلة التفاهة وتنتقل إلى قطاعات أخرى.
كثيرون من الكتاب والباحثين تناولوا بالتحليل هذا الكتاب وغيره من الدراسات التى تعرضت لتفشى هذه الظاهرة على المستوى العالمى، ومنهم الباحث عبدالله بن بجاد العتيبى، الذى يرى أن التفاهة أصبحت منتجا مرغوبا، ومبررا، إما لتعمية الحقائق والتلاعب بها، أو لغايات سياسيةٍ دولية أو إقليمية أو محلية، أو لخدمة تيارات ورموز وجامعات أفلست أيديولوجيتها وخطابها.وقد تواكبت تلك الصناعة مع عصر السرعة الذى حل محل عصر الصبر. حيث تطورت البشرية بالصبر فى تحصيل العلم والمعرفة. وعصر الإنجاز بدل عصر الإتقان. وعصر الخضوع لقيادة الجماهير بدلا من أن تقود النخب تلك الجماهير. وعصر الوصول الى الثراء بدون الحاجة الى مؤهلات ولا خبرات، حيث يبشر الكثيرون بطرق سريعة لاكتساب مهارات وقدرات فى صناعة التوافه من الأفكار والمشروعات تجلب ملايين الجنيهات!
وهكذا أصبحت التفاهة بتجلياتها العديدة جزءا من منظومة عالمية ترتبط بتطلعات النظام الرأسمالى للمزيد من الربح، ولتحقيق هذا الهدف تزيل فى طريقه كل قيمة أو عقيدة تقف حائلا أمام توغله لذلك فإنه يعمل بشتى السبل على إنكار الثوابت والقيم وتسليع كل شيء ليكون قابلا للبيع والشراء بما فى ذلك الأخلاق والمبادئ، وفك الارتباط بالدوائر الاجتماعية، كالأسرة أو المجتمع من أجل تسهيل انفلات الفرد من هذه الروابط ليكون فريسة سهلة لمنظومة الشراء والاستهلاك!.
التعليقات