بَكيتُ عَلى الشَبابِ بِدَمعِ عَيني … فَلَم يُغنِ البُكاءُ وَلا النَحيبُ
فَيا أَسَفا أَسِفتُ عَلى شَبابِ … نَعاهُ الشَيبُ وَالرَأسُ الخَضيبُ
عَريتُ مِنَ الشَبابِ وَكانَ غَضّاً … كَما يَعرى مِنَ الوَرَقِ القَضيبُ
فَيا لَيتَ الشَبابَ يَعودُ يَوماً … فَأُخبِرُهُ بِما صَنَعَ المَشيبُ
هذه الأبيات تعتبر من أشهر ما نظم أبو العتاهية ومع ذلك أنا لا أتفق معها بالمرة لأن أمنيتي ليست أن يعود شبابي فأنا شابة وسأظل كذلك ، أنا أمنيتي أن أعود طفلة لأن طفولتي كانت جميلة واستثنائية ولي فيها ذكريات كثيرة جعلتني حتى اليوم طفلة أربعينية.
سعادتي واتزاني النفسي في طفولتي يعود في المقام الأول لأمي الرقيقية أطال الله عمرها ومساعدها في رحلة تربيتي والدي الغالي الله يرحمه.
هذا الثنائي الفذ جعل من سنوات عمري الأولى رحلة أود أن أدير عجلة الزمن لأعود لها لأنها كانت ولازالت السبب الرئيسي لما أنا عليه اليوم.
أنا كنت طفلة شقية جداً، تلعب أو تغني أو ترقص أو تقفز في كل الاتجاهات بكل حرية وسعادة.
لاحظت أمي منذ حداثة سنيّ موهبتي في الفك والتركيب وأنيّ كطفلة لا أميل ابداً للعب بالعرائس بل أحب الأشياء اليدوية، من هنا اشترت أمي لي نولاً خشبياً نسجت عليه سجادة صغيرة وكانت هذه السجادة أول ما صنعت بيدي الصغيرتين، بعدها أصبحت ماهرة أكثر فاشترت لي ألعاب الصور او ما يعرف بالپازل، و قبل ان أتم الثامنة من عمري كنت أركب پازلز تتجاوز عدد قطعها الألف قطعة، لقد علمتني أمي كيف أبحث عن القطع التي تككل بعضها بشكل ذكي وكيف أصفهم في مجموعات بشكل يجعل تركيبهم دقيق وسريع فهي مهندسة ماهرة ذات تفكير منظم وترتيب متناهي في هذه الأمور.
في هذه الأثناء أيضاً لاحظ أبي حبي للموسيقي الغربية وأنني أوفر مصروفي كله لشراء أحدث الإصدارات الموسيقية والألبومات، فقام بتخصيص مبلغ شهري لهذه الهواية ومن هنا كونت مكتبة نادرة من الأغاني وتحسنت لغتي الإنجليزية بشكل تفوقت فيه على كثير من أقراني في مدرستي أمريكية المنهج.
كان أبي مستشاراً وقاضيٍ مرموق وله ملكة فطرية جبارة في الكتابة، كما كان له حس أدبي واتقان شديد وتمكن من اللغة العربية قراءة وكتابة، وكان حكائاً من الطراز الأول وطالما حكى لي كثير من الحكايات عن الترات والتاريخ و العلم والعالم من حولنا.
حكي لي قصة فانوس ومدفع رمضان ولما سميت حنفية بهذا الاسم ولماذا نذبح الخروف ونضحي به ولماذا تتغير الشهور و كيف تدور الكواكب وما هي الحياة وما هو الموت وما هي الرحلة بينهما.
لقد اخذني أبي في أماكن كثيرة، قهوة الفيشاوي ومطعم نجيب محفوظ والغورية وشارع الأزهر ولو كان على قيد الحياة لكنت جبت معه المحروسة كلها وأنا مازلت كالطفلة ممسكة بيد أبيها الذي حفر في وجدانها علامات وترك بصمات جعلتا تتذكره وتحبه وتحدثه كل يوم وتروي له كيف كان يومها وكيف تتعايش مع حياة الكبار وتعترف له أنها تتمني أن تعود طفلة وأن حياة الكبار لا تروق لها.
في كل مراحل حياتي كانت ومازالت أمي مُلهمتي وصديقتي، هي من جعلتني أحب القراءة وطوال سنوات مدرستي كنت أنا الفائزة الأولي التي قرأت أكبر عدد من الكتب بحسب تقرير أمينة المكتبة.
أختلف الناس علي من أشبه من والديّ، هل أشبه أمي أم أبي؟ هناك فريق كبير يقسم اننيّ صورة كربونية من أمي شكلاً وشخصيتاً لما بيننا من سمات كثيرة وطباع مشتركة، وهناك فريق موازي يري انني اشبه أبي في لون عينيه وشعره وحواجبه الخفيفة وما أحب او أكره من الأكل و الشرب و حبيّ للكتابة مثله.
في قرارة نفسي أختلاف الفريقين يسعدني جداّ لأنني أحبهم وهم يقتسمون قلبي، وكم أشعر انيّ متميزة لأني احمل جزء بسيط وصغير من ناس عظيمة صنعوا فرق كبير في حياة طفلة…أربعينية تحبهم جداً و تعتقد انهم عظماء عظمة الملائكة و لكنهم في صورة بشر، ولحسن حظي انهم أمي و أبي.
لكل ما سبق انا اختلف مع أبو العتاهية جملة وتفصيلاً وأرى أن العودة للطفولة أفضل بكثير من العودة إلى الشباب، الشباب تشيب في يوم ما لكن الأطفال حتى وان شابوا تظل طفولتهم طاغية.
الله يرحمك يا پاپاة ويمد في عمرك يا ماماة - أنتم حلمي وواقعي وأنا بسببكم طفلة أربعينية تحب الحياة اللي وهبتموها لي.
التعليقات