الخمسة الكبار الذين يمارسون هيمنة ضخمة على العالم ليسوا الدول الخمسة التي تملك حق الفيتو بمجلس الأمن، وإنما شركات لديها تأثير قد يكون أكبر من تلك القوى الدولية، حيث تتحكم في أضخم ثروة بالعالم، وتتنافس فيما بينها على إحراز أعلى رقم للقيمة السوقية في نادي التريليونات دولار! أما مكاسبهم فهي الأكثر على الاطلاق ولم تعد تحسب بشكل سنوي مثل بقية شركات العالم، ولا كل شهر مثل بعض المشاريع الأخرى ولا حتى يوميا، انما كل 60 دقيقة، فتبلغ إيرادات "أمازون" 43،5 مليون دولار كل ساعة!
تتلوها أبل (29 مليون دولار) ثم جوجل( 20.9 مليون دولار)، ومايكروسوفت( 16.8 مليون دولار) وفيسبوك (9.7 مليون دولار.) نعم هذه الإيرادات كل ساعة بحسب وكالة "بلومبيرج" الأميركية، ولكن هل هذه المكاسب تأتي على حساب ملايين المستهلكين، أم أنها على حساب شركات أخرى منافسة؟ السؤال يثير أيضا هواجس مشروعة عن مدى توفر الحماية للمستهلكين الغلابة وأيضا لصغار الشركات من افتراس الاحتكار والهيمنة على العالم بخاصة وأن زبائن تلك الشركات تعد بالمليارات!
ربما الذي لا يعلمه الكثيرون أن تأثير هذه الشركات المدمر قد يفوق تأثير الدبابات والطائرات الحربية، ليس ذلك خيال كاتب ولا مبالغة من مستهلك غلبان، وإنما حقيقة مسجلة، فقد اجتاحت روسيا فنلندا في حرب الشتاء عام 1939 بآلاف الطائرات والدبابات، ولكن ذلك الغزو العسكري لم يضر باقتصاد البلاد كما فعل الغزو التجاري الذي شنته "آبل" على "نوكيا" في عام 2007، حيث هز سقوط "نوكيا" أركان الاقتصاد الفنلندي بأكمله، فالشركة التي كانت تشكل قيمتها نحو 70% من قيمة سوق الأسهم المحلي تراجعت إلى 13% فقط، خلال سنوات.
هذه المخاوف من هيمنة الشركات الكبرى على العالم شغلت الدكتور "سكوت جالواي" أستاذ التسويق بجامعة نيويورك وعبر عنها في كتابه الصادر في أكتوبر الماضي:(الأربعة: الحمض النووي الخفي لـ"أمازون" و"آبل" و"فيسبوك" و"جوجل") والكتاب تصدر قائمة "نيويورك تايمز" للكتب الأكثر مبيعًا.
يجيب المؤلف بشكل ضمني عن السؤال الذي طرحناه حول مدى كون هذه الأرباح على حساب المستهلكين، موضحا أن أحد الأسباب الأساسية لنجاح تلك الشركات هو فهمها واستغلالها لرغباتنا نحن البشر، حيث تستهدف كل واحدة منهم جزءا منها، فـ"جوجل" مثلًا، تستهدف الدماغ وعطشنا للمعرفة، أما "فيسبوك" فتركز على القلب وحاجتنا لتطوير علاقات عاطفية، في حين تستهدف أمازون" الشجاعة وحس الصياد بداخلنا، فهناك دائمًا العرض الذي لا تستطيع تفويته، ومحصلة ذلك "استهلاك أكثر"، بينما تركز "آبل" بمنتجاتها الأنيقة على رغبتنا الدائمة في التميز عن الآخرين.
وقد أثارت الثروة المركزة لدى تلك الشركات وقوتها اهتمام المراقبين الذين يعتقدون أن استمرار نموها وتوسعها يشكل تهديدًا ليس فقط للمستهلكين وللشركات الأخرى بل للمجتمع العالمي بشكل عام، وهو الامر الذي توقف عنده كثيرا د. سكوت جالواي في هذا الكتاب المهم، لافتا الى أن عمالقة التكنولوجيا الأربعة اضافوا نحو تريليوني دولار إلى قيمتهم السوقية المجمعة منذ أزمة 2008، وهو المبلغ الذي يقترب من حجم الناتج المحلي الإجمالي للهند.
وخلال الفترة ما بين عامي 2013 و2017، ارتفعت القيمة السوقية للأربعة بنحو 1.3 تريليون دولار، وهو ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لروسيا.
ويتعمق المؤلف أكثر في ماكن قوة هؤلاء العمالقة من خلال مقارنات بأشكال مختلفة من ركائز القوة، فمثلا لدى "أمازون" شبكة لوجيستية عالمية لا تمتلك مثلها معظم دول العالم، تشمل أسطول طائرات من طراز "بوينج 767" وطائرات دون طيار والآلاف من المقطورات والشاحنات، وسفن شحن بالمحيط الهادئ. بل ان المتعاملين معها في الولايات المتحدة أكثر من المتعاملين مع دور العبادة هناك حيث أن 52 % من الأمريكيين مشتركون بخدمة "أمازون برايم" في حين لا يذهب سوى 51% منهم إلى الكنيسة. وتمتلك "جوجل" شبكة من مزارع الخوادم، وتقوم بإطلاق المناطيد في الغلاف الجوي بهدف توصيل الإنترنت عريض النطاق، بينما أعلنت "فيسبوك" مد كابل بحري فائق السرعة عبر المحيط الهادئ. باختصار، ترغب هذه الشركات في أن تصبح ركيزة المستقبل وأن يدور كل شيء في فلكها، على حد قول المؤلف.
وعلى الرغم من جائحة كورونا أرهقت الاقتصادات العالمية، وكبّدت الشركات والمؤسسات والأفراد خسائر بملايين وربما مليارات الدولارات ، إلا انها أتاحت أرباحاً بمئات المليارات لشركات التكنولوجيا خلال العام الماضي، وهو ما يزيد من أهمية التوعية بتداعيات تأثير هذه الشركات في مجالين أساسين، الأول اقتصادي يتمثل في الاحتكار، والثاني فكري يتعلق بحرية التعبير، وهذا موضوع لمقال آخر!
التعليقات