رحل إبراهيم العابد، أستاذي ومعلمي الذي رافقته في مهنة الإعلام والصحافة عن كثب طيلة ثلاثة عقودٍ من الزمن، كان خلالها الأب والأخ بالنسبة لي والصديق الذي أجلس معه يومياً.
قبيل مغادرته الدنيا إلى مأواه الأخير حدّثني عبر الهاتف قائلاً "لم أتمكن من لقاءك اليوم بسبب مرض "أم باسم" الذي يؤلمني كثيراً، وبصراحة أحس بضيقٍ شديدٍ لمرضها، بانتظارك غداً أبو أحمد".. غير أن الغد الموعود مع إبراهيم العابد لم يأتِ، فقد نام نومته الأبدية ! تاركاً وراءه إرثاً إنسانياً كبيراً وفضائل ومآثر كثيرة لاتُعدّ ولا تُحصى، محبة خالصة لاتنسى وإنجازات تحتاج لكتب كثيرة لتوثيقها.
لم يكن هذا الرمز الإعلامي الإماراتي والعربي، يبدأ يومه كل صباح بدون أن يهاتفني لتناول فنجان القهوة نستعرض خلالها أحداث الأمس واليوم، ثم أمضي إلى مكتبي ويبدأ هو – رحمه الله – رحلته اليومية مع الأخبار والتقارير والاتصالات والتوجيهات والاجتماعات والمتابعات بأدقّ التفاصيل، لذا لم يكن يغادر المكتب قبل حلول المساء حتى يطمئن بأن كل شيء يسير على مايرام في الأجهزة الإعلامية التي كان يشرف عليها وخاصة وكالة أنباء الإمارات "وام". وهكذا لم يكن يعرف معنىً للإجازات الأسبوعية أو السنوية.
لا أتذكر أنه تناول يوماً وجبة إفطار، غداءٍ أو عشاء سواءً كان برفقة عائلته أو أصدقائه، بدون أن يرن هاتفه ليترك كل شيء ويبدأ في التفاعل مع موضوع المتصل، سواءً كان مسؤولاً كبيراً أو شخصاً عادياً. ربما كان هو المسؤول الوحيد الذي يردّ على أي اتصال يأتيه !
لا أذكر بأنه، وعند سفرنا إلى الخارج خلال رحلاتنا العملية لدول العالم، قد قام بإغلاق هاتفه الجوال لكي يستريح بعض الشيء. ودائماً كان يردّ على انتقادي له بالقول "ياجمال.. أنا إنسان خُلق للعمل ولم يُخلق للرفاه أو التنزه"!!
لذلك لم يكن إبراهيم العابد – رحمه الله - يعرف سوى العمل في حياته الطويلة منذ أن كان طالباً في المرحلة الثانوية، حيث عمل في مجال التدريس وهو طالب ثانوي قبل التحاقه بالجامعة الأمريكية في بيروت، لكي يحصل على الدخل ويكمل مشواره دون الضغط على أهله الذين لم يكونوا ميسوري الحال – آنذاك – وبعد أن شارف على دخول سن الخامسة والسبعين، وأكمل الرسالة على خير وجه، اقترحت عليه أن يُطلق العنان لنفسه كي تستريح ويبدأ باستكشاف الحياة ومعالمها الجميلة التي لم يكن قريباً منها، عندها ضحك بصوت عالٍ وقال: "خلاص راحت علينا ! بعد 60 سنة عمل متصل لم أعد أعرف كيف أتذوّق طعم الحياة"!
في الأسابيع القليلة الماضية، كان هاجسه الوحيد عندي زيارتي له في المجلس الوطني للإعلام هو مكتبته الثرية بالكتب التاريخية والإعلامية والسير والفكر، حيث كان يشير بيده متسائلاً: ماذا أفعل بهذه المكتبة لوتركت العمل أو حصل لي أمر طارئ؟
كان مخلصاً للإمارات وقضاياها منذ عصر التأسيس وحتى عصر التمكين والتطور، وكان ملازماً لكل خطوة خطتها هذه الدولة الناهضة، كما كان يحمل هماً ملازماً له طيلة الوقت وهو كيفية تحسين الصورة النمطية للإمارات في الغرب والإعلام الغربي المتحيز.
إبراهيم العابد – رحمه الله – وضع الاستراتيجيات الإعلامية وسهر على تنفيذها منذ منتصف السبعينات، في تلك الظروف الصعبة التي رافقت عصر التأسيس والبناء وظلّ يعمل حتى آخر يوم في حياته، إذ كان يُخطط بالتعاون مع معالي نورة الكعبي، وزيرة الثقافة وتنمية المجتمع لإعداد موسوعة بالعربية والإنجليزية عن مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - رحمه الله - لتصدر في ذكرى مرور 50 عاماً على تأسيس دولة الإمارات العام المقبل 2021.
إبراهيم العابد
وكان يتشاور مع الوزير زكي نسيبة والإعلامي بيتر هيلير ومعي أيضاً، لإنتاج هذا العمل الموسوعي الذي يكون كشهادة للأجيال القادمة عن كيفية بناء الدول الناهضة وتحدّي المشاق في سبيل بناء الإنسان والأوطان.
كان يرفض أي فكرة تحثّه على الاستسلام للراحة وطلب الاستجمام، وكان يرفض أن نخرج للجلوس على الشاطئ أو تناول العشاء في مكان فاخر، لأنه في قرارة نفسه كان يُدرك أن في ذلك ترف يبعده عن التفكير في عمله، ومفارقة رفيقة دربه "أم باسم" في مرضها المزمن!
تعرّفت إلى الراحل الكبير إبراهيم العابد بوزارة الإعلام في أبوظبي عام 1980 ومنذ ذلك الحين فهمت أن هذا الرجل استئنائي ومعلم من طراز رفيع، وكان منذ ذلك الوقت هو القدوة والنبراس، فتأثيره كان عميقاً في نفسي وتكويني المهني وسوف تظلّ صورته حيةً ماثلة أمامي فالرموز لاتموت وإن فنيت أجسادها!
حين التحقت بالعمل كمحرر في إدارة الإعلام الخارجي بالوزارة عام 1990 كان إبراهيم العابد هو المدير العام، ومن خلال عملي معه عن قرب أدركت مدى أهمية أن تكون تلميذاً في مدرسة إبراهيم العابد الإعلامية، فالرجل مهني وأخلاقي وعطوف وكريم ومتواضع وقريب إلى القلب وغزير في المعرفة، ويبدو مكتبه على الدوام مثل ترسانة ثقافية مزوّدة بكافة أسلحة العلم والفكر وشتى المعارف.
منذ التحاقه بوزارة الإعلام عام 1975 كان مسؤولاً عن الإعلام الخارجي، وفي عام 1977 قام بتأسيس وكالة أنباء الإمارات وام، وفي عام 1980 قاد الفريق الإعلامي لتأسيس وكالة الأوبك في فيينا، ثم تولى مناصب عدة في الإعلام الحكومي كمدير عام المجلس الوطني للإعلام ثم مستشاراً لرئيس المجلس.
لقد عمل إبراهيم العابد مع الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان الذي كان أول رئيس للمجلس الوطني للإعلام، ثم مع صقر غباش والشيخ حمدان بن مبارك آل نهيان ومع سلطان الجابر. وفي الوزارة عمل مع الراحل الشيخ أحمد بن حامد والراحل خلفان الرومي ومع الشيخ عبدالله بن زايد وعبدالله النويس ومع صقر غباش وعوض العتيبة.
كان – رحمه الله - طيلة العقود الماضية موضع تقديرٍ ورضىً من هؤلاء المسؤولين فقد كان يضع لنفسه خطوطاً حمراء لايتجاوزها، ويعمل ليلاً ونهاراً للنهوض بالإعلام الإماراتي بأقل الإمكانيات المادية والبشرية خاصة في البدايات الأولى لتأسيس الدولة.
وعلى مدى سبعة وأربعين عاماً قدّم العابد عطاءً مهنياً ووطنياً ثرياً، تمثل بمهنيته العالية نبض جيل الاتحاد، يخفق بإحساس وطني وقومي وإرادة واعية بأنّ الإعلامي أداة بناء، ورافد للوعي في مجتمعه. آمن بعروبته وامتلك القدرة والجرأة وملكة الإبداع على خدمتها، حيث كان يتميز بقدرة عالية من الثقافة تؤهله أن يعيش حركة المجتمع، يرصد ويتلمس حاجاته وأوجاعه وإنجازاته.
أحب مهنته فمارسها بهمّة عالية، معتمداً على ثنائية الالتزام والتجديد، فكان شُعلة في درب الإعلام الأصيل الملتزم، حيث كان يستحضر في ذهنه دائماً مبدأً حدّده المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بالتأسيس لإعلامٍ تصالحي حواري يخدم أهداف الأمة ومستقبلها.
فقيدنا الكبير كان هو الإعلامي الأول في الإمارات، وتجربته تُلخّص حكاية الإعلام الوطني، كان صديقاً لجميع الإعلاميين في الإمارات، إضافة إلى الإعلاميين في العديد من الدول العربية والعالم. قصة كفاحه في حقل الإعلام يجب أن تُدرّس في كليات الإعلام، لكي تتعرّف الأجيال الجديدة على نماذج تلك التضحيات الجمّة لهذا الرمز الذي عايش البدايات الأولى للإعلام في الإمارات، وكيف كان مساهماً فاعلاً في التأسيس لانطلاقته، وكيفية متابعة تطوره وقفزاته، إلى أبعد الآفاق وماوراء الحدود.
التعليقات