من خلال البحث والدراسة والقراءة المستفيضة فى تاريخ مصر القديم (من أجل برنامجى أوراق البردى) وصلت حتى اليوم إلى ما يزيد عن 13 سنة .. وضحت لى الكثير من الأمور .. ولن أتحدث عن كل هذه التفاصيل وإنما عن جزئية واحدة صغيرة لعلها تفيد بعض العقول المتعطشة .. وهى "هل توجد أثار فرعونية فى الدلتا؟" هل توجد كنوز مدفونة تحت أرض الدلتا؟!"
انتشرت الحياة المصرية القديمة على ضفاف نهر النيل حيث الزراعة والرعى وتفاصيل المعيشة كاملة .. بنى المصري بيته فى تجمعات سكنية وفقا لحالة الثراء المادى .. طبقة النبلاء والأمراء والملوك كانوا يمتلكون القصور وهذه كانت على الأطراف وكأنها منتجعات خاصة بعيدة عن أماكن تجمعات العامة الذين يملكون بيوتًا صغيرة من الطوب الشمسى .. وكانت هذه القرى والمدن منتشرة من جنوب مصر حتى شمالها بنفس التفاصيل.
أصل الحياة فى مصر هو نهر النيل .. وكان فيضان النهر الذى يأتى كل عام يسبب تدمير لهذه التفاصيل .. وهذا ما أدركه المصرى فكان يقيم بيوته وقصوره فى أماكن بعيدة بعض الشئ عن النهر ..
الفيضان كان أكثر ظهوره فى الوجه البحرى .. نظرا لانبساط الأرض وعدم وجود الأرض الجبلية أو الهضاب المرتفعة .. فكان الماء يفيض على الجوانب لمساحات واسعة جدا ..
الفيضان كان يأتى بالطمى ليراكم عبر السنين .. وهذا الطمى هو الذى تكونت منه الدلتا (معظم محافظات الشمال بين فروع النيل التى كانت أكثر من فرعين فى القدم) .
وبالطبع يتراكم الطمى مع الفيضان الأعم .. أى فى الدلتا .. فكان تراكم الطمى يحدث كل عام بشكل كبير .. ولا يوجد تراكم فى الجنوب إلا لمسافة قليلة حول مجرى النهر وهى التى أصبحت الشريط الزراعى والسكنى... وبالتالى ضاعت قرى ومدن فى الشمال بينما ظلت باقية فى الجنوب..
مدن وقرى الشمال التى تراكم عليها طمى النيل وهدمت أو طمست مع الفيضان عام بعد عام هو الأمر الذى أوحى لكثير من المتأملين إلى أن الحضارة المصرية القديمة كانت فى الجنوب باستمرار ولم تصل إلى الدلتا إلا قليلا وهو قول خطأ .. لكن الصواب هو تواجد نفس الحضارة فى الشمال لكنها طُمِست مع الزمن ولم يتبق منها إلا القليل البعيد عن أيادى الفيضان .. أو وصله الفيضان ولم يترك إلا القليل من الطمى على الأطراف.
لو تأملنا الحال فى القرى فى أيامنا هذه لوجدنا شوارع القرية ترتفع عام بعد عام بمقدار واحد سم أو اكثر .. فنشاهد مداخل البيوت تضيع مع ارتفاع الشوارع، وهذا الارتفاع من تفاصيل الحياة العادية فما بالنا لو كان الفيضان يستمر حتى اليوم ؟
دعونا نفترض أن الفيضان قديما لم يترك من الطمى كل عام إلا واحد سم فقط .. و دعونا لا نعود بالتاريخ إلى نقطة البداية ولن نعود إلى سبعة آلاف عام .. لكن دعونا نعود بالتاريخ إلى ألف عام قبل الميلاد .. فيكون التصور أننا نعود فى عمق الماضى ثلاثة آلاف عام .. وكل عام يترك الفيضان 1 سم يكون لدينا 3000 سم من الطمى فيكون لدينا تراكم طمى حوالى 30 مترًا أى ما يعادل ارتفاع بناية من عشرة طوابق على الأقل.
فهل تتخيل معى أن تحت أرض الدلتا مدن وقرى قديمة مدفونة على عمق عشرة طوابق؟!
هذا يعنى أن الوصول إليها شبه مستحيل ..
الأمر الآخر .. هو إن تم الحفر والوصول إليها .. ما الفائدة؟
لا شئ تقريبًا .. لأن هذه القرى كانت عبارة عن بيوت صغيرة تخص الفقراء وعامة الشعب الذين لا يمتلكون إلا القليل وكانوا يحملون بعضه وهم يرحلون وقت الفيضان .. بالطبع مقتنياتهم مهما كانت وقتها فهى تمثل لنا اليوم قيمة .. ولكن مع قليل من التبصر .. هى أشياء لا تعادل جزء يسير من الجهود المبذولة للحصول عليها .. فلن تجد مثلا مقابر ملكية أو لأمراء ولن تجد الأثار من تمثايل وذهبيات ملقاة فى كل مكان .. حياتهم مثل حياة العامة اليوم .. مجرد أشياء بسيطة للحياة وفقط ..
وحينما كان يأتى الفيضان كان يطمس كل شئ أمامة ولم يصمد إلا القليل من الجدران المبنية من كسر الصخور .. أما الطمى فقد تراكم بينها .. يعنى لو تم الحفر لن تجد كما فى الجنوب فى أعماق الجبال البعيدة عن النهر .. لن تجد سراديب وممرات وغرف وتتجول فيها هكذا لتحمل الكنوز وتعود .. !!
نعم الدلتا كانت تعج بعامة الشعب قديما .. لكن العائد من البحث يعتبر صفرًا صحيحًا عكس الجنوب الصخرى الصحراوى الجاف الذى لم يتعرض للفيضان عبر التاريخ .. فقد كان الأجداد يدركون ذلك فأقاموا المقابر فى أحضان الجبال أو فى قلب الجبال المرتفعة وهى التى تحتفظ لنا بها حتى اليوم.
ما تم العثور عليه حتى اليوم من أثار مصرية قديمة فى الوجه البحرى هو على أطرافها .. أى الأطراف البعيدة التى لا يكاد الفيضان يصل إليها .. أو هو وصل ولكنه قليل وضعيف فيطمسها أو يغرقها بشكل طفيف وأيضا كانت مساكن العامة والفقراء.
لذا وبمنتهى البساطة تركزت الأثار المصرية القديمة المتبقية عبر الزمن فى الجنوب ولم يظهر منها فى الشمال غير الفتات.
يضاف إلى ذلك الحضارات التى ازدهرت فى الشمال مستقبلا مثل الرومانية واليونانية وهى التى أتت عبر بحر الشمال واستقرت قبل أن تذوب فى نسيج الوطن أو يرحل بعض رجالها، وبالطبع مَن استقر وذاب فى النسيج المصرى هم العامة والفقراء بينما رحل الأثرياء بما يملكون أو هزموا فى الحروب وأسروا أو قتلوا وحملت ثرواتهم.
التعليقات