كعادتها كل صباح قبل أن تخرج حياة لعملها تشعل ماكينة القهوة , تُحَضر الخبز المحمص ثم تذهب لقضاء صلاة الصبح وبعدها تحتسي القهوة مع الخبز المطعم بالجبن وتستمع لبعض الموسيقي الهادئة, الحزينة, المفعمة بالدفء مثلها وفي تلك الأثناء تتفحص رسائلها عبر شبكات التواصل الاجتماعي كانت حياة تتلقى العديد من الرسائل الصباحية ممن يتوددون لها كونها فنانة تشكيلية , أثناء تفحصها لتلك الرسائل اتسعت عيناها فجأة ودق قلبها إنها رسالة منه نعم إنه ماهر إنه هو, لا تدري إن كانت المفاجأة أسعدتها ! أدهشتها ! أحزنتها ! كل ما تدريه أنها كانت مفاجأة.
- حياة الصفحة بتتهكر تقريباً اعملي نكز وتعليقات كثيرة من فضلك .
- ردت عليه في صمت واستسلام فعندما تتكرر صدمات الحب لا نقابلها إلا بالصمت والاستسلام وكأن الصدمات أنهكت قوانا, أطفأت مشاعرنا واختصرت اللغة
- عملت نكز وتعليق
- بس الصفحة تقيلة ومفيش حاجة ظاهرة عندي
- غريبة.
ظلا هكذا رسالة تقابل الأخرى من أجل حسابه المغلق , أخذتها تلك الرسائل لذكرى أولى رسائله أيضاً بدأها بنفس الطريقة دون سلام أو مقدمات
- انتي رسامة فين؟
- سيدي أنا هاوية أنشر على حسابي الالكتروني وكل بياناتي على نفس الحساب تشرفت بحضرتك
- حضرتك أنا أملك معرض للفنون التشكيلية وأود التعاون معك.
ومن هنا بدأت حكاية ماهر وحياة , سعدت كثيراً كون لوحاتها سترى النور أخيراً وتخرج عن نطاق النشر الإلكتروني رغم أن لديها ألاف المتابعين لكن الفنان يبحث دائما عن الانتشار , توالت الرسائل والمهاتفات إلى أن ذات مرة كانت منهمكة بالحديث عن لوحاتها وعن لون البنفسج الذي يميزها بخطوطه الصاخبة الحزن وإذا به يسألها وسط كل هذا الاندماج
- تتجوزيني ؟
باغتها السؤال وهي تحتسي رشفة من القهوة فغصت بما تشرب وأصابها سعال مفاجئ وفقدت صوتها لفترة ثم تلعثمت قليلاً وردت بما تبقى فيها من تماسك
- ماذا ؟
- هل تقبلين الزواج بي ؟
هكذا كان معها دائما يباغتها بالأسئلة إلى أن اقتحم قلبها في غفلة منها فسقطت كالثمرة الناضجة في يديه, كانت تؤمن أن الحب كالموت يأتي بغتة لذا اطمأن قلبها وأيقنت أن ذلك ما كانت تبحث عنه لطالما أرادت حباً بسيطاً غير محلى كقهوتها الصباحية .
كان ماهر ذلك الرجل البسيط لا يتردد أن يبوح بما يجول في خاطره, كان باسم الثغر ضحوك لقد رسم على شفتيها الحزينة البسمة بل بدل تنهيدات الليل بضحكات رنانة , كان هادئ الطبع ينصت إلى كل ما تقوله حتى وإن كان تافهاً, كان يساعدها في حل مشاكلها , وكانت تحتاج لمن يسمعها ويساندها لا تدري إن كانت اعتادت عليه أم أحبته , استأنست بوجوده أم عشقته ؟ كل ما تدريه أنه ملأ حياتها وأن قلبها يغوص بين جنبيها كلما رن الهاتف فهي لم تراه قط فقط عبر شبكة التواصل الاجتماعي . وعدها أن يرسما معاً لوحة مشتركة تجسد قصتهما .. ظلا هكذا عدة شهور تنتظره كل ليلة لتلقي بهموم النهار على كتفه وتفتح زراعيها لهمومه . وفي ليلة من الليالي باغتها كعادته .
- أحبك .. إنكِ الحياة بحق أين كنتي ؟ بل أين كنت أنا ؟
تلعثم حديثها ولجأت لتغيير الموضوع كالعادة . فسألها منزعجاً
- لماذا تصبحين جافة كلما أخبرتك أني أحبك ؟
- ماهر إنك لا تعرفني ولا تعلم عني شيئاً
- إذاً أخبريني ما السر الذي يحول بيني وبينك قلبك؟
قررت أن تصارحه بجرحها فلقد ثكلها الحب من قبل, أنصت لها برحابة صدر وهدهد على روحها وقال لها
- لا تخافي ولا تحزني أنا طبيب جروحك , اسمحي لي أن أكون معولك على هذه الحياة كنت أبحث عنكِ في وجوه كل النساء, فمعكِ أنتِ أكون أنا .. أنا فقط مجرد من أي شيء, معكِ عرفت معنى الحب, كيف أترك السماء التي حولتيني فيها إلى ملاكاً؟
- كيف أحبك وقلبي ليس بحوزتي يرقد بين جنبي شخص أخر
- اسمحي لي أن أبتلع غيومك فقط أؤمريها أن تهطل عليّ, حياة أنتِ لست فقط أنثى بل سيدة الأنوثة
كان يتقن فن الطبخ ويعرف كيف يعد مائدة حياته, ظل يغدق عليها باهتمامه , وظلت صباحه ومساءه يسترق الدقائق لسماع صوتها, للحديث معها أحاطها اهتماماً خاصاً تربص بقلبها إلى أن لان وأخذها إعصار الحب و أصبح لا هوس لها إلا سماع صوته أو رؤيته, أسلمت قلبها قطعة تلو الأخرى, فكانت تطوق لمن يلملم جراحها, قرت عينيه بامتلاكها أخيراً .
حينها تبدل الحال وبدأت تسقط رويداً رويداً من أولوياته بعدما كانت على رأس القائمة أصبحت أخر اهتماماته بل كان يهاتفها وقت فراغه بعد أن يفرغ من كل شيء, إذا تبقى في جعبته بعض الدقائق يكتفي ببضع كلمات في رسالة حتى يوم عطلته لم يعد يقضيه معها صارحته مراراً بأنه تغير وحاله تبدل فكان يتعذر بالعمل وضيق الوقت وحينها يجاهد في الاهتمام لبضعة أيام ثم يعود لما كان عليه, رانت أفعاله على قلبها أفسد عليها أحلامها التي نسجتها معه . مؤلم أن تكون الأولى في حياة من حولها والأخيرة في حياة من نصبته الأول في حياتها . نسيّ أنا المرأة تحتاج للأمان والاهتمام أكثر من احتياجها للحب . لا ضير أن يكون مزدحما بمن حوله ولكن أن يصل الازدحام إلى حد أن لا تجد لها مكاناً يتسع لقدميها في حياته ّ! لم تستسلم قررت أن تعطي حبها فرصة أخيرة لعله يعاني من مشكلة ما لعلها فترة صعبة في حياته وستمضي, لكن ما سيضيره لو أشعرها أنه رغم العمل يفسح لها المجال في رسالة حب أنه منشغل فلا تبتأسي ولا تحزني ! كيف يتركها وراء كل عائق دون فهم ؟ كيف لها أن تستوعب ما لم تحط به خبرا ؟ ماذا لو أخبرها أنه سيرحل ولن يعود فلا تنتظره ؟ لماذا ترك المجال لعقارب الساعة تلدغ فيها الأمل وتزرع فيها الخيبة ؟ اغتالتها الأسئلة ورحل دون إجابة , رحل وترك لها قلبا خاليا لا تسمع فيه إلا أصوات الراحلين . رحل رغم وعده بالبقاء , رحل وأرغمها على الرحيل لم تحتمل غيابه المتقطع وحضوره المتذرع بأشياء ليست للغفران, اختارت القطيعة الحاسمة حتى توفر عليه جهد الذرائع التي يبحث عنها مبرراً غيابه.
أما الآن وقد عاد بعد بضع شهور عاد بنفس المباغتة ونفس الروح ونفس الصوت عاد وكأن فراقهما كان بضع ساعات أما بالنسبة لها كانت شهور طويلة من الوجع كان قلبها يتلظى من الوحدة التي عادت إليها, منذ رحل حل بدلاً عنه خواء كبير , عندما نعيش الوحدة نعتاد عليها مع مرور الوقت لكن عندما نتذوق الأنس والحب بعد الوحدة يصعب علينا العودة للوحدة مرة أخرى . ؟ فعندما دخل حياتها كان كمن ألقى حجراً في نهر حياة الراكد فتناثر رذاذ الماء وتشكلت دائرة ثم اتسعت وتشكلت دائرة إثر دائرة , أما الآن فركدت المياه من جديد وابتلع شاطئ الوحشة كل الدوائر وعادت المياه لسكونها مرة أخرى . انطفئ فيها كل شيء سكنت مشاعرها لم تعد تفرح أو تحزن حتى مذاق الأطعمة في فمها لم يعد يتميز بشيء . فعندما ننكسر مرة فإننا ننكسر لكن عندما ننكسر مرة أخرى فإننا نتحطم , ألقت بنفسها بين اللوحات تصب بألوانها الوجع صباً, فلم تعد لديها رغبة في استعادته حتى إجابات الأسئلة التي كانت ترنو إليها لم تعد تشغلها , لكن تلح عليها رغبة في أن تحتفظ به في أي شكل آخر من أوجه الحياة لقد فشلا أن يكونا عاشقين , ربما ينجحا كصديقين, رغم أنها تجاهد كل مرة تتحدث فيها إليه فصوته, صورته, اسمه جميعهم يؤرقها ينبشوا آلام زعمت أنها اندثرت , وبدلاً من أن تسأله لماذا فعل ذلك ؟ على العكس تماماً لا تريده أن يُذكرها أنه ذاك الماهر الذي حطمها , تخشى أن يمس الألم بداخلها فتصرخ وينهار تماسكها . لا تدري لماذا تفعل ذلك كل ما تدريه أنها لا تستطيع أن تعود إليه فثمة أشياء لا يغفرها الحب.
التعليقات