يقارن العقلاء في العالم بين طريقتين في التفكير، الطريقة المنطقية التي تم تجريبها وأثمرت نجاحات بالأمس، والطريقة الابتكارية التي تقوم على رؤية المألوف بطريقة غير مألوفة، اي أن ترى ما لا يراه الآخرون، أو ما صار يسمى بثقافى الابتكار. إن تبنيأي من الطريقتين يفرق جدا في مواجهة المشكلات او حتى مواصلة البقاء.
يظهر الفرق بشكل جلي في عالم الصناعة والتسويق، وبطريقة أقل وضوحا في المجال السياسي والاجتماعي، وعادة نجد أصحاب الطريقة التقليدية ينكرون تخيل ما ستؤل إليه أحوالهم اذا لم يغيروا طريقة تفكيرهم، و تحقق ثقافة الابتكار نتائج إيجابية هائلة بل قد تحدث طفرات كبرى، ويقابلها عادة الإنكار من جاب أصحاب التفكير التقليدي الذين يتصورون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأنهم امتلكوا زمام النجاح والريادة وأن التاريخ سيتجمد تحت أقدامهم.
لدينا نماذج وأمثلة عملية عديدة توضح هذه الفكرة، منها تجربة شركة عريقة في صناعة الكاميرات وأفلام التصوير الضوئي وهي "كوداك"التي تأسست عام 1892، وحققت نجاحا استمرعدة عقود، فعلى رغم من انها اتبعت سياسة تسويقة منطقية مكنتها من السيطرة على 90 % في السوق الأميركي والانشار بمختلف انحاء العالم، إلا أنها أعلنت افلاسها خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة لإهمال الابتكار وتشبسها بإنكار تخيل اي نجاح قد تحققه شركة منافسة، وهو ما حدث عام 1981 عندما أعلنت شركة يبانية طرح كاميرا رقمية بدون فيلم.فرأت "كوداك" أنه من الصعب تصديق أن شيئاً ما سيكون مربحاً كالأفلام التقليدية التي كانت رائدة بها، ثم تزايدت الصعوبات في 1984 عندما دخلت شركة يابانية أخرى السوق الأمريكية بكاميرات رقمية، لكن الشركة العريقة رفضت الإقرار بأن المستهلك الأميركي قد يغير شرائه إلى ماركة غريبة عنه.
منذ أواخر التسعينيات بدأت الشركة المعاناة المالية نتيجة إنخفاض مبيعات أفلام التصوير لتطور الكاميرات الرقمية وانتهى بها المطاف إلى الإفلاس.
مثال آخر تجسده شركة (نوكيا) التي اجتاحت العالم في مبيعات الهواتف النقالة وصلت إلى 120 دولة، وكانت أرباحها تقدر بـ 13 مليار دولار ،ولكنها تغافلت عن أهمية الابتكار فهمّشت مهندسي قطاع البرامج والتطبيقات الخاصة بالأجهزة الذكية.
ورغم أن الشركة كانت سبّاقة في مجال الهواتف الذكية الموصولة بالإنترنت، فإنها تأخرت عن ركب نظام التشغيل الذي ابتكرته شركة منافسة استخدمت تنقية "اللمس"،التي شكلت ثورة في الهواتف الذكية. وانتظرت عاما كاملا ، قبل ان تطلق هواتفها بتقنية "اللمس"، إلا أن خيّب آمالا الجمهور، ثم بدأت شركة "نوكيا" تذوي في السوق.
لم تفشل هاتين الشركتين بسبب حرب اندلعت في بلادهما، أو بسبب الأزمة المالية، أو نتيجة إجراءات دول أخرى منعت استيراد منتجاتهما، بل بسبب غياب التفكير الابتكاري وإنكار التطور الحاصل والتشبث بالطريقة التي حققته بها الشركتان نجاحات في الماضي ولم تعي بأهمية التغيير الحادث في العالم الرقمي .لنفس السبب سقطت في عالم السياسية أنظمة استمرت عقودا.
واليوم اصبح الابتكار يسهم في التنمية والاقتصاد، وخلق فرص عمل جديدة، فضلاً عن كونه يسهم في تقليل التكاليف والنفقات على الصعيدين الحكومي والخاص،
وصار التشجيع على الابتكار يأخذ مسارات فعلية في العالم المتقدم مثل إدخاله في مناهج التدريس أو وضعه ضمن أدوات تقويم الموظفين أو اختبارات المقبلين على الوظائف الجديدة أو تنظيم مسابقات دورية للابتكار .ففي ظل التطورات المتوالية والاحتياجات الإنسانية المتصاعدة أصبح بحق من لم يتقد، يتقادم.
ومن هنا تصاعد إلاهتمام بغرس ثقافة الإبداع والابتكار لدى الأطفال والتوعية بدور الأسرة والمدرسة في هذا المجال، انطلاقا من أن الابتكار صناعة المستقبل،
ومن ثم اصبحت حكومات العالم المتقدم تتخذ اجراءات وتنشئ مؤسسات وتضع سياسات للتشجيع على الابتكار ، بل أن بعض الدول العربية قطعت شوطا ملحوظا في هذا المجال، فقد اعلنت الإمارات عام 2015، عاماً للابتكار، وتم إنشاء إدارة للابتكار في كل جهة حكومية، وتنظيم المسابقات، التي تصب في زيادة الوعي بالابتكار، وتم تخصيص أسبوع للابتكار (22- 28 نوفمبر)سنويا تقام فيه ورش العمل ويتم استعراضما نفذته كل جهة من ابتكارات بمجال عملها وتوزيع الجوائز على المبتكرين.
أين نحن من كل ذلك؟ لن نعيد ما أصبحنا نسمعه من حين لآخر عن سفر المخترعين والمبتكرين المصريين للخارج بحثا عمن يتبناهم .
ولكننا نتساءل :هل يعي القائمون على التعليم والمعنيون برعاية النشئ، بأهمية غرس هذه الثقافة الابتكارية التي أصبحت الرهان الحقيقي لمواجهة التحديات ليس فقط الراهنة وإنما أيضا المستقبلية؟ وهل لدينا برامج وسياسات للتشجيع على الابتكار والاختراع وآليات لتبنيها وتنفيذها ؟
التعليقات