منذ ظهر الإنترنت بميزاتها الكثيرة عابرة للحدود الجغرافية والثقافية والسياسية، بدأت بوادر القلق العام تظهر خشية من تأثيراتها على الكثير من المفاهيم والأنشطة الإنسانية، ورافقها تحديات كثير أمنية وثقافية ومن خلال واقعها وتطبيقاتها ظهرت مفاهيم الأمن المعلوماتي بل أصبح مفهوم السيادة والوطنية محل تساؤل، في ظل معارك الكتائب الإلكترونية وحروب "الهشتاقات"!
لقد أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي للجميع القيام بمهام إعلامية فيما سمي بصحافة المواطن، ولكنها تفتقر إلى المهنية وتعوزها في أحوال كتيرة الاخلاقيات ومواثيق الشرف الإعلامية ، وبعضها أصبح ساحة للترويج لأخبار مزيفة أو مفبركة وربما شائعات مغرضة.
وعن طريق الانترنت أصبح ممكنا تنظيم الاجتماعات بين المجموعات الإجرامية لتنسيق المواقف وتبادل المعلومات، كما بات ممكنا تزايد حالات الاختراق للأمن الوطنى، وظهر ما بات يعرف بالكتائب الإللكترونية، كما استخدمتها جماعات العنف على اختلاف توجهاتها الفكرية والدينية .
نعيش في عصر أصبحت فيه المعرفة كمركز التأثير والإنتاج اليوم تنشئ علاقات ومفاهيم جديدة ومتغيرة بالنسبة للسلطة والمجتمعات والأفراد والسيادة والحدود والتنظيم الاجتماعي والسياسي، بل والثقافة والقيم؛ لذا اتجهت الحكومات إلى تبنى طرق متابية للتعاطي مع التحديات الإلكترونية الجديدة، فبعضها لجأ لوسائل عتيقة كالمنع والحجب وهي طرق تعود إلى عصور تلاشت أمام تعقد شبكات المعلومات الدولية والحلول الإلكترونية التي أصبحت تتغلب على هذا المنع بوسائل أكثر تقدما، والبعض الآخر حاول صياغة قوانين لاحتواء ومواجهة الجرائم الإلكترونية .
في حين لجأ فريق ثالث إلى سياسية الإغراق والكثرة في المشاركة لتكون المواجهة بين قلة وأغلبية في الفضاء الإلكتروني، حيث تستخدم اليوم ما أطلق عليه تعبير"الجيوش الإلكترونية" للإشارة إلى فرق المشاركين الذين يحشدون في الشبكة للتأثير والمواجهة والإشاعة والتأييد أوالإساءة الى جهة او دولة، وأصبحنا نجد الأحزاب والتيارات والأفكار و جماعات المصالح تتحول اليوم إلى "هاشتاق" أو "وسم"، ومن ثم صارات الحروب والصراعات تجري بين مجموعة من "الهاشتاقات!
لذا لجأ فريق رابع إلى بناء وسائل تواصل اجتماعي قد تكون تحت السيطرة ، لتكون بديلة لشبكات التواصل الاجتماعي العالمية (فيسبوك، تويتر، إلخ)ومن ذلك الإعلان التركي عن طرح تطبيق وطني لتبادل الرسائل عبر الهواتف المحمولة باسم "بي بي تي ماسنجر" كبديل محلي لتطبيق "واتساب" الأمريكي، لتضاف الى المحاولات الوطنية للإفلات منهيمنة عمالقة التواصل الاجتماعي العالمية على السوق المتنامي لهذه المواقع، وهذه المحاولات حققت نجاحًا في بعض الدول مثل روسيا من خلال موقع "في كي"، والصين عبر تطبيق "وي تشات" وهما بديلان محليان مشبهان لفيسبوك .
في هذا السياق نتفهم قرار النائب العام الصادر في فبراير الماضي بتكليف المحامين العامين، ورؤساء النيابة العامة بالاستمرار في متابعة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وضبط ما يبث عنها ويصدر عنها عمدًا من أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة من شأنها تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب في نفوس أفراد المجتمع أو يترتب عليها إلحاق الضرر بالمصلحة العامة للدولة المصرية، واتخاذ ما يلزم حيالها من إجراءات جنائية.
ثم نشرت النيابة العامة أرقام هواتف خُصص لكل محافظة أو إقليم بعض منها، بهدف إبلاغ مُحققي النيابة عن أي نشر أو بث في وسائل الإعلام المتخصصة أو مواقع التواصل الاجتماعي لأخبار وإشاعات غرضها "المس بأمن البلاد، أو ترويع المواطنين"، بينما لا يوجد أي قيد على هذا الإجراء سوى كشف المُبلغ اسمه وبياناته الشخصية.
ومع تقديرنا للاعتبارات التي دعت النيابة لاتخاذ القرار، فإن فتح الباب على مصراعيه بهذا الشكل ربما يُرهق المُحققين في التثبت من آلاف الشكاوى التي لن يخلو عدد كبير منها من الكيدية، وقد يكون من الأفضل تلقي الشكاوى من المتضررين وذوي الصفة لتحريك الدعوى القضائية بحسب ما ذهب إليه بعض المراقبين وخبراء الإعلام .
الحقيقة أن النيابة العام اجتهدت وفق سلطتها وأدواتها، ولكن نحن أمام معضلة إدارة الفعل الشبكي التي لم تعد فقط هاجس للجهات الأمنية أو القضائية، وإنما مصدر قلق للأسر التي تخشى على أبنائها من التيارات الثقافية المتباينة التي تروج عبر الشبكة والتي قد تصطدم مع قيم المجتمع وثقافته، بعد أن داهمتنا هذه التقنيات بدون أن يكون لدينا برتوكل أو ميثاق اخلاقي للتعامل معها.
هذه المعضلة لا تفيد معها الوسائل التقليدية وإنما علينا البحث عن طرق مبتكرة، ومن ثم فإن الأمر يستدعي تضافر جهود تخصصات مختلفة تضم خبراء تكنلوجيا المعلومات الإعلام والأمن وعلماء الاجتماع والنفس وغيرهم للتوصل إلى حلول وآليات من رحم العصر الذي نعيشه وليس من بطن التاريخ !
التعليقات