في كل مرة تتصاعد فيها مشكلة مجتمعية أو جريمة صادمة، يتردد السؤال ذاته، كيف يحدث هذا رغم كل ما تبذله الدولة من حملات ودروس وبرامج توعوية؟ الحقيقة أن المشكلة ليست في غياب الوعي، بل في فجوة بين ما يُقال وما يُبنى، بين الرسالة ووسيلة إيصالها، وبين القانون والمجتمع الذي يُفترض أن ينفذّه.
مصر بالفعل تبذل جهودًا معتبرة في نشر الوعي، لكن الوعي لا يُقاس بعدد الحملات أو الإعلانات، بل بالأثر الذي يحدثه في السلوك اليومي للمواطن. ما يحدث في كثير من الأحيان هو مجرد (وعي موسمي)، أي مؤقت، ويكون مرتبط بحدث أو مناسبة، وذلك دون متابعة مستمرة أو تقييم حقيقي للأثر. هذه الحملات تشبه ضمادة توضع على جرح عميق؛ تُخفف الألم لحظات لكنها لا تعالج السبب. في المقابل، دول مثل: كوريا الجنوبية وسنغافورة حولت مسألة الوعي إلى منظومة مؤسسية مستمرة، ففي كوريا الجنوبية، أصبح الوعي جزءًا من التعليم والإعلام والثقافة العامة، حيث يُربط التعليم بالقيم الوطنية والانضباط والالتزام، ويصبح القانون أداة لفهم الحقوق والمسؤوليات، وهو ما ساعد المجتمع على التعافي من أزمات تاريخية وبناء سلوك جماعي متماسك. أما في سنغافورة، فقد تم تحويل القانون نفسه إلى أداة هندسة سلوك، مع حملات دقيقة مستمرة تربط بين العقوبات والنتائج، وتقدم القانون بطريقة قصصية وعملية تجعل المواطن يعي أثر كل فعل على المجتمع والاقتصاد والنظام العام.
فإحدى المشكلات الجوهرية في مصر ودول أخرى هي تعدد الجهات المعنية بالوعي بدون قيادة موحدة. كوزارة العدل، والثقافة، والتعليم، والإعلام، والمجالس القومية، والجمعيات الأهلية، والجامعات ..إلخ، فكلٌّ يسعى لنشر الرسالة، لكن من ينسق هذه الجهود؟ والنتيجة هي رسائل صحيحة لكنها موزعة، متناقضة أحيانًا، وغير مستدامة، والوعي بلا قيادة مركزية يشبه موسيقى بلا مايسترو؛ قد تكون النغمات جميلة، لكنها لا تصنع لحنًا عامًا يُغيّر المجتمع.
إضافة إلى ذلك، تبقى لغة القانون بعيدة عن المواطن العادي، فالقوانين المصرية مكتوبة بصياغة رسمية يصعب فهمها، وحملات التوعية غالبًا ما تستخدم لغة رسمية بعيدة عن الواقع اليومي للناس، خاصة في القرى والمناطق العشوائية. فالتجارب العالمية تظهر أن تبسيط القانون وجعله ملموسًا ومرتبطًا بالحياة اليومية، كما تفعل سنغافورة وكوريا وبريطانيا التي بسطت صياغة القوانين حتى تصبح أقرب لمتلقيها من مواطنيها، مما يجعل القانون جزءًا من السلوك اليومي ويزيد الالتزام به.
ولا يمكن تجاهل دور التعليم، فمعظم الطلاب يتخرجون دون معرفة حقيقية بحقوقهم وواجباتهم، أو فهم النظام القضائي، أو تدريب على اتخاذ القرار، أو وعي بالجرائم الرقمية والمالية. وعندما يغيب التعليم، يتعلم المواطن من التجربة والخطأ، وغالبًا من المعاناة. وهذا بدوره يضاعف فجوة الوعي بين المواطن والقانون، ويجعل المجتمع أكثر عرضة لتفاقم المشكلات.
علاوة على ذلك، تبقى الثقافة التقليدية أقوى تأثيرًا من الثقافة القانونية، فالعادات والموروثات، والفتاوى غير المنضبطة، والأقوال المتوارثة أحيانًا تكون أكثر قوة من نصوص الدولة، ما يخلق صراعًا بين المعرفة الحديثة والمعرفة التقليدية، وغالبًا تفوز الثانية لأنها متجذرة في وعينا منذ الطفولة.
في الوقت نفسه، الوعي الرقمي لم يصبح بعد جزءًا أساسيًا من الوعي القانوني. فمصر قطعت خطوات مهمة نحو التحول الرقمي، لكن خطابات التوعية ما زالت تركز على الجرائم التقليدية، بينما تنتشر الجرائم الإلكترونية، الاحتيال عبر مواقع التواصل، والابتزاز الرقمي، وسرقة البيانات، أصحبت بسرعة أكبر من قدرة المواطن على فهمها أو مواجهتها؛ هذا يجعل فجوة الوعي أكثر خطورة، حيث تتطور الجريمة أسرع من قدرة المجتمع على مواجهتها، فالمواطن لا يشعر دائمًا بأن التوعية تحميه في حياته اليومية، ومعرفة الحقوق وحدها لا تكفي إن لم يجد المواطن كيفية ممارستها، وإن لم يشعر أن القانون يطبق بحزم وفعالية. هذه الفجوة بين النظرية والتجربة اليومية تضعف الثقة بالقانون والجهات المسؤولة عن تطبيقه.
إن الوعي الحقيقي ليس مجرد حملة إعلامية أو إعلان قصير، بل مشروع دولة متكامل، إنه سياسة تعليم وثقافة وإعلام وعدالة، مربوط بمؤشرات أداء وقياس أثر، ومؤسس على القدوات والبنية التحتية الرقمية التي تجعل الرسالة مستمرة ومتواصلة. فالوعي ليس صوتًا يُرفع، بل مؤسسة تُدار.
ومصر لا تعاني من غياب الوعي، لكنها تعاني من غياب تنظيمه، غياب قيادته الموحدة، وغياب تبسيطه، وغياب ربطه بالتعليم وتحديثه الرقمي. ولهذا تتفاقم المشكلات لأن وعي الأمس لا يصلح لعالم اليوم، ولأن رسائل التوعية لا تتحول دائمًا إلى سلوك، ولأن القانون ما زال ينتظر أن يجد طريقه إلى قلب المجتمع قبل عقول المواطنين.
حتى ينجح الوعي، يجب ألا نكتفي بنشره، بل ببنائه. ولا يكفي أن نقول للناس: “اعرفوا حقوقكم”، بل يجب أن نُريهم كيف تُمارَس. ولا يكفي تحديد المشكلة، بل يجب خلق منظومة تمنع تكرارها. حين نصل إلى هذه المرحلة، يصبح القانون جزءًا من الثقافة، لا مجرد نص ينتظر التطبيق.
التعليقات