لم تعد المدن الذكية مجرد فكرة مستقبلية أو حلماً يراود المشرّعين والمهندسين، بل أصبحت واقعًا ملموسًا في دولة الإمارات، فمن مدينة "مصدر المستدامة" في أبوظبي، إلى "دبي الذكية" التي تسعى لتكون المدينة الأكثر اعتمادًا على الذكاء الاصطناعي، وصولًا إلى "إكسبو سيتي" كنموذج حضري مستدام؛ كل هذه المشاريع العملاقة ترسم ملامح مرحلة جديدة، تُعيد تعريف مفاهيم التخطيط الحضري والتشييد العمراني.
لكن وسط هذا الزخم التكنولوجي، يقف القانون العمراني أمام امتحان عسير: هل يستطيع أن يواكب سرعة التطور، أم يظل حبيس نصوص صُممت لعصر البيروقراطية الورقية؟
من البيروقراطية إلى الرقمنة: قفزة تتجاوز النصوص التقليدية
القوانين العمرانية في دولة الإمارات – مثل غيرها من الدول – أنشأت لتنظيم استخدام الأراضي، أنظمة البناء، والرخص، والمرافق، والسلامة، كانت الغاية الصريحة منها هو ضبط حركة النمو العمراني وحماية المصلحة العامة، غير أن دخول الذكاء الاصطناعي والأنظمة الرقمية في كل تفاصيل المدينة قلب المعادلة، فاليوم لم يعد الحديث فقط عن مبانٍ شاهقة أو مخططات عمرانية، بل عن بُنى تحتية ذكية كشوارع تتواصل مع المركبات ذاتية القيادة، وأنظمة ذكية لتوزيع المياه والطاقة، ومبانٍ تُدار عبر خوارزميات تتخذ قرارات لحظية. فهل هذه الأنظمة الجديدة مشمولة بالنصوص القانونية القديمة؟ قطعًا لا. وهنا يبدأ النقاش الجاد".
كيف تُعيد المدن الذكية رسم حدود القانون العمراني
وهنا تثور عدة تساؤلات هامة حول:
1. من المسؤول قانونيًا إذا أخطأت الخوارزمية التي تنظّم المرور في مدينة ذكية؟
فإذا تسبب نظام المرور الذكي في حادث نتيجة خلل برمجي، فهل تقع المسؤولية على المطوّر التقني؟ أم على الجهة الحكومية المشغلة؟ أم على الشركة التي وفّرت النظام؟
والإجابة هنا تكشف فراغًا تشريعيًا، إذ أن الأنظمة القانونية الحالية تفترض دائمًا وجود "فاعل بشري" وراء القرار، بينما في المدن الذكية، القرار قد يُتخذ من قِبل خوارزمية لا تملك إرادة أو نية، هنا قد نحتاج إلى مفهوم جديد للمسؤولية المشتركة بين المطوّر والمشرّع والمشغّل.
2. هل يُعامل النظام الذكي كأداة تقنية، أم ككيان قانوني له مسؤولية؟
حتى اللحظة، النظرة السائدة في معظم الأنظمة القانونية – بما فيها الإمارات – أن الذكاء الاصطناعي أداة تقنية تخضع لمساءلة من يستخدمها أو يملكها، وليس كيانًا قانونيًا مستقلًا، فالمسؤولية المدنية أو الجنائية لا يمكن أن تنسب إلى "الخوارزمية" أو "النظام الذكي"، بل إلى الشركة المطوّرة، أو الجهة المشغّلة أو الشخص الطبيعي/الاعتباري الذي يستخدمها، لكن، مع توسع دور الأنظمة الذكية في التخطيط الحضري وإدارة المدن الذكية – كأنظمة المرور الذاتية، إدارة الطاقة، أو حتى الروبوتات التي تشرف على أعمال التشييد – يطرح سؤال جذري:
"هل يمكن أن تظل القوانين تحاسب البشر فقط بينما القرارات المصيرية تُتخذ آليًا بالكامل؟" ومع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي هل من الممكن أن يظهر في المستقبل إطار قانوني يعترف بـ"المسؤولية الجزئية" للأنظمة الذكية؟ والإجابة .. نعم، لكن ليس بالمعنى التقليدي لـ "الشخصية القانونية"، فبعض الباحثين يقترحون مفهوم "المسؤولية الجزئية" أو المسؤولية الموزّعة بحيث يتحمل المطورون جزءًا من المسؤولية (عن الخلل البرمجي أو التحيز)، ويتحمل المشغلون جزءًا آخر (عن سوء الاستخدام أو عدم الصيانة)، بينما يُعترف للنظام الذكي بــ"ذمة قانونية مقيدة" في حدود قراراته الذاتية التي لا يمكن ردها مباشرةً للبشر.
وهذا الطرح يثير بدوره إشكالية: كيف يُعاقب النظام الذكي؟ هل بالغرامة على الشركة المالكة؟ أم بتعطيله بما يُعرف بـ (الإعدام الرقمي)؟
المشهد الإماراتي: أين نقف الآن؟
الإمارات بالفعل سبّاقة؛ فقد أصدرت قوانين تنظّم استخدام الذكاء الاصطناعي في بعض القطاعات وأطلقت وزارة متخصصة بالذكاء الاصطناعي، لكن في مجال التخطيط العمراني، لا يزال القانون يتعامل مع الذكاء الاصطناعي كوسيلة تقنية مساعدة وليست صانع قرار مستقل.
ومع تصاعد مشاريع مثل مدينة مصدر في أبوظبي، ونيوم الذكية المجاورة، وتطوير "الحلول الرقمية" في دبي الذكية، من المتوقع أن يفرض الواقع القانوني نقاشًا جديدًا جوهره : من المسؤول إذا فشل نظام ذكي في إدارة شبكة مرور وأدى إلى خسائر؟ وهل يعامل كخلل تقني (كما اليوم) أم كقرار خاطئ لنظام ذكي يتحمل تبعاته؟
الجواب المبدئي: أن القانون سيظل إنسانيًا لكن بواجهة ذكية، وعلى الأرجح أن القانون الإماراتي – والعالمي – سيتجه نحو توسيع مفهوم المسؤولية المشتركة، بحيث لا تُترك فراغات قانونية، وإيجاد معايير محاسبة خاصة للأنظمة الذكية (مثلاً شهادات أمان قانونية إلزامية، وترخيص لأنظمة اتخاذ القرار)، وكذلك سيتجه إلى ابتكار أوجه للجزاء جديدة، مثل تعطيل النظام أو سحب ترخيصه بدلًا من العقوبات التقليدية.
بعبارة أخرى، الذكاء الاصطناعي لن يُعامل كـ"شخص" في القانون، لكنه قد يصبح "كيانًا قانونيًا وظيفيًا" له التزامات وحدود واضحة، خاصة في التخطيط الحضري حيث القرارات تتجاوز الجانب التقني لتؤثر مباشرةً على الأرواح والاقتصاد والمجتمع.
3. كيف نوازن بين حماية الخصوصية ومتطلبات الرقابة الأمنية؟
المدن الذكية تجمع بيانات ضخمة عن كل شيء، كحركة السكان، واستهلاكهم للطاقة، ومواقع تنقلهم تلك البيانات تُعد منجمًا ذهبيًا للتخطيط، لكنها في الوقت نفسه تُعد تحدٍ لخصوصية الأفراد، فهل يسمح القانون باستخدامها دون قيد، أم يضع ضوابط لحمايتها كما فعلت أوروبا عبر "اللائحة العامة لحماية البيانات" (GDPR)؟
إن دولة الإمارات خطت خطوات مهمة في قانون حماية البيانات الشخصية 2021، لكن يبقى التحدي في التطبيق ضمن مدن تلتقط البيانات لحظة بلحظة.
4. هل يمكن أن تتحول القوانين العمرانية نفسها إلى "قوانين ذكية"؟
وهو التساؤل الأكثر جرأة، فإذا كانت المدينة ذكية وتعمل لحظيًا، لماذا لا تكون القوانين كذلك؟ فعلينا أن نتخيّل لو أن نظام الترخيص العمراني نفسه أصبح "ذكياً"، يقرأ بيانات الأرض والمبنى وينجز الموافقات خلال دقائق دون تدخل بشري، نجد أن الإمارات بدأت بالفعل خطوات عبر "المدينة الرقمية" و"الحكومة الذكية"، لكن تحويل النصوص القانونية ذاتها إلى أدوات تفاعلية هو التحدي القادم.
الإمارات كنموذج: بين الجرأة التشريعية والتحدي العملي
الإمارات العربية المتحدة كقوة إقليمية صاعدة أثبتت قدرتها على استباق المستقبل، فهي من أوائل الدول التي أصدرت استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، وأنشأت وزارة خاصة له، كما أنها تسعى لتوحيد القوانين العمرانية بما يواكب مشاريعها العملاقة.
لكن المعضلة ليست في إرادة التشريع بل في سرعة مواكبته، فالمشاريع العملاقة تُنفّذ بوتيرة غير مسبوقة بينما القوانين – مهما كانت مرنة – تحتاج وقتًا للإصدار والتعديل والتفسير القضائي.
نحو "تشريعات ذكية" بدلًا من نصوص جامدة
الحل قد يكمن في التحول من "قوانين جامدة" إلى "تشريعات ذكية"، بحيث يتم صياغة القوانين بلغة مرنة تستوعب التطور التكنولوجي دون الحاجة لتعديلات مستمرة، وكذلك استخدام الذكاء الاصطناعي في تفسير النصوص وتطبيقها، بحيث يصبح القانون متفاعلًا لا مجرد نص مكتوب، إلى جانب إدماج القطاع الخاص والمطورين التقنيين في صياغة التشريعات العمرانية، لضمان أن تواكب الواقع العملي.
القانون أمام سباق مع الزمن
المدن الذكية في الإمارات تبرهن أن المستقبل أسرع من النصوص، وإذا لم تُسرّع القوانين العمرانية من وتيرتها، فإن المدن قد تعيش خارج مظلتها القانونية، السؤال لم يعد : "هل تستطيع التشريعات مواكبة المدن الذكية؟"، بل أصبح: "كيف نحول القانون ذاته إلى أداة ذكية تواكب الواقع لحظة بلحظة؟"
دولة الإمارات بجرأتها التشريعية قادرة على قيادة هذا التحول، لكن النجاح يتوقف على قدرة القانون على التخلي عن البيروقراطية، والتحول إلى الرقمنة الكاملة، ليصبح هو الآخر "ذكياً" مثل المدينة التي ينظمها.
مستشارة قانونية معنية بتحليل البعد التشريعي للتنمية في قضايا الاستثمار والشركات
التعليقات