وكأننا مكتوب علينا ألا نهدأ قليلا ، وألا نشعر بالراحة ولو بالقدر اليسير.
نعلم جيدا أن مهمة المفكر شآقة ويقع على عاتقه مسؤوليات جسام تجاه وطنه الذي يعيش فيه.
فلا يمكن بحال من الأحوال أن يجد خلل حادث ويقف منه موقف المتفرج فتلك مسؤولية سيحاسبه الله تعالى عليها أولا ، وسيحاسبه عليها التاريخ ثانيا.
فإنه ما نشأنا عليه وألفناه منذ صغرنا وما تعلمناه في مدارسنا وجامعاتنا ، حتى ما سمعته آذاننا وشاهدته أبصارنا أمام شاشات التليفاز ، وما قرأناه عن الفن بكل صوره وألوانه ، سواء فن تشكيلي ، أو فن تجريدي ، أو فن تشخيصي .
ما ألفناه أن الفن رسالة بناء للمجتمع يعالج قضاياه ومشكلاته ويدور مع المجتمع ومتغيراته ومع عصوره المختلفة ، فهو تجسيد لحالات المجتمع التي يمر بها.
فإذا ما كانت هناك ثورات ضد غاصب أو مستعمر يقف خلفها قلبا وقالبا مدافعا عنها سواء بفن السينما أو المسرح أو عن طريق المسلسلات التليفزيونية.
وقد شاهدنا ذلك فى أفلام الملاحم الوطنية أثناء الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والعدوان الثلاثي على مصر.
وشاهدنا أفلام سينمائية تؤرخ لحظات عبور قناة السويس في أكتوبر المجيدة عام 1973م.
كذلك شاهدنا الأفلام الوثائقية التي تؤرخ لنشأة الدولة المصرية عبر مراحل تطورها وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه الفن الهادف ، فالفن له غاية وهدف إصلاحي ، فقد شاهدنا أفلام في منتهى الأهمية عالجت قضايا كثيرة خاصة بالمرأة مثلا ، كفيلم أريد حلا ، والزوجة الثانية ، وأفواه وأرانب.
فضلا عن الأفلام التي تعالج العنصرية والطبقية والطائفية كفيلم مثلا رد قلبي ، أيضا ، رأينا فيلم الأيدي الناعمة الذي عالج مسألة الاتكالية واللامبالاة ، فكان دعوة للعمل والجد والاجتهاد معبرا عن مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم (هذه يد يحبها الله ورسوله)
شاهدنا مسلسلات في العصر الذهبي للتليفزيون تتحدث عن العصامية وكيف يبنى الإنسان نفسه ولا يتواكل (شخصية عبد الغفور البرعي ، شخصي سعد الدالي)، وغيرهما من الأفلام والمسلسلات العظيمة التي تركت بصمات وآثار إيجابية عند المتلقي.
حتى فى أفلام الكوميديا كانت كوميديا هادفة تسخر الكوميديا لمعالجة قضايا في المجتمع وخير شاهد على ذلك أفلام الريحاني التى عالج فيه حال المعلم (غزل البنات)، ومسرح يوسف وهبي ، والشرقاوي وصبحي ، كوميديا تصلح ولاية تفسد ، وليست كوميديا الايفيهات والنكات الخارجة المفرغة من المضمون ، عبث في عبث ، فوضى عارمة ، غرضها إلهاء المتلقي وشغله عن قضايا مجتمعه ووطنه ، وقضاياه الشخصية ومشكلاته.
فما أن يستفيق من سكرات الضحك حتى يفاجأ بواقع مؤلم يبكيه طويلا.
أما ما يحدث الآن وما وصل إليه وما آل إليه الفن المصري الآن ، فإن جاز لي القول ، لا يمت للفن بصلة لا من قريب ولا من بعيد - إلا القليل القليل - ابتذال ، اسفاف ، لا قصة ، لا سيناريو مكتوب ، لا ممثل منضبط كل هدفه المغالاة في المكياج والملابس المزركشة البراقة التي لا تمت للشخصية التي يجسدها بأي صلة.
فضلا عن الإيحاءات والايماءات الجنسية والتعري.
كل ذلك لماذا ، من أجل التربح والمكسب السريع ، ليس مهما ما يقدم من قصص ، المهم المال الكثير ، ويذهب المجتمع إلى الجحيم بأطفاله وشبابه وسيداته ، وشيوخه.
والنتيجة الحتمية انتشار البلطجة ، والألفاظ الخارجة ، والمخدرات والشذوذ والمثلية بالسرقة وحالات الاغتصاب والعقوق.
أليس كل ذلك أداة هدم للمجتمع، وناقوس خطر يدوي ، قائلا اغيثونا ، أدركوا ما تبقى منا ومن قيمنا ومبادئنا وعاداتنا.
أدركوا شبابنا ، أغيثوا بيوتنا من مثل هذه السفاهات والحماقات والجهالات.
وهنا يأتي دورنا نشخص الداء أما الدواء فليس صعبا توافره ، وإنما يحتاج إلى وقفة شجاعة جريئة من الدولة بأجهزتها الرقابة ، خصوصا ، الرقابة على المصنفات الفنية ، والتشديد على كل ما يقدم للمتلقي.
إن الفن رسالة بناء للمجتمع لا رسالة هدم.
أعيدوا للفن هيبته ووقاره.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان
التعليقات