المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح ثقافي يضم كنوز الأجداد، بل هو شاهدٌ على عظمة الإنسان المصري، قديمه وحديثه، إنه إنجاز فريد يربط ماضينا العظيم بحاضرنا المزدهر، ويؤكد أن العبقرية التي بنَت الأهرامات ونحتَت التماثيل هي نفسها التي تُرمِّمُها وتُخلِّدها اليوم، كما قال الدكتور جمال حمدان في وصف شخصية الإنسان المصري: "إنه يتسم بالقوة والصبر، وبالإيمان العميق بقدرته على الإنجاز، ولديه مرونة في مواجهة التحديات"، وهذا ما يتجلى بوضوح في قصة هذا المتحف.
مركز الترميم: حب وشغف وعلم
يُمثِّلُ مركز الترميم الأثري، الذي يرأسه الدكتور حسين كمال، في المتحف المصري الكبير، الذي أُنشئ عام 2006، جوهر هذا الإنجاز، ففي هذا المركز، لا يتم التعامل مع القطع الأثرية كمجرد مواد جامدة، بل ككائنات حية تحمل في طياتها قصصًا عن حضارةٍ بأكملها.
يُعَدُّ المركز مدرسةً فكريةً رائدة في مجال الحفاظ على التراث، حيث يتبنى فلسفةً فريدة تجمع بين مبادئ الصيانة الوقائية والعلاجية، مع التركيز على أقل تدخل ممكن في القطعة الأثرية.
هذه الفلسفة تقوم على هدف نبيل: إعطاء كل قطعة أثرية عمرًا افتراضيًا لا نهائيًا من خلال التحكم في عوامل التلف، ولهذا، يضم المركز 19 معملًا متخصصًا يعملون بتكامل، مستخدمين أحدث تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد والتحليل الكيميائي لضمان أفضل طرق التعامل مع الآثار.
إنها رحلة مستمرة ضد الزمن، هدفها أن تظل هذه القطع الثمينة حية، تحكي قصصها للأجيال المقبلة.
دقة التكنولوجيا وعبقرية المصريين
في هذا الصرح العلمي، تتكامل التكنولوجيا الحديثة مع الخبرة المصرية المتراكمة، فعلى الرغم من أهمية الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات، فإن اليد البشرية الماهرة المدربة تظل هي الأساس؛ فكل قطعة أثرية هي نموذج فريد لا يمكن للآلة أن تفهم خصوصيته بالعمق الذي يدركه الإنسان المتخصص.
المرمم المصري حارس أمين على الحضارة
إن المرمم المصري يتعامل مع كل قطعة بقدر كبير من الحب والاهتمام، فهو يدرك أنه ليس مجرد مصلِّح، بل هو حارسٌ أمين على إرث حضارة عظيمة، هذا الشغف ليس وليد اللحظة، بل هو امتدادٌ لروح الأجداد التي جسدت الإبداع في كل تفاصيل حياتهم، إنه يثبت أن الإنسان المصري لم يفقِد قدرته على الإبداع، بل تطورت أدواته، وظل جوهره المبدع قائمًا يزداد إبداعًا وإبهارًا.
وهذا الإرث العظيم يتجاوز ما هو معروض اليوم، فكما صرح الدكتور زاهي حواس، أن 70% من آثار مصر ما زالت مدفونة تحت الأرض في انتظار الاكتشاف، وهذا التصريح يلقي على عاتق المرمم المصري مسئولية مضاعفة، فهو ليس حارسًا على ما هو موجود من آثار فحسب، بل هو مستعدٌ أيضًا للتعامل مع كنوز لم تكتشف بعد.
إن استخراج هذه الآثار يتطلب استعدادات هائلة، ليس فقط في عمليات الحفر، بل في تأهيلها وعرضها، ويُعَدُّ مركز الترميم في المتحف المصري الكبير نموذجًا لهذا الاستعداد، حيث تُجهز الكوادر والتقنيات اللازمة لترميم وعرض هذه القطع فور اكتشافها في متاحف مصر المختلفة، لتقدم للعالم فصولًا جديدة من قصة الحضارة المصرية.
رسالة للمستقبل: حراسة التراث
إن المتحف المصري الكبير يفتح آفاقًا جديدةً ليس فقط في مجال عرض الآثار، بل في حمايتها وتأهيل الأجيال المقبلة للتعامل معها، فمركز الترميم يعمل على تدريب كوادر شابة، ليكونوا جسرًا يربط بين علوم الماضي وأدوات المستقبل، إنها رسالة واضحة بأن حراسة التراث ليست مسئولية الحكومات فحسب، بل هي مسئولية كل فرد مصري يدرك قيمة إرثه.
إن المتحف المصري الكبير؛ هذا الصرح العظيم يؤكد أن الحضارة المصرية لم تندثر، بل تتجدد وتنهض من جديد بأيادٍ مصرية تُعلي من قيمتها وتحرس كنوزها، لتظل منارةً للعالم، كما كانت دائمًا، ومع اقتراب موعد الافتتاح الرسمي في الأول من نوفمبر لهذا العام، يدعوكم هذا الصرح التاريخي لاكتشاف كنوزه بأنفسكم.
فهل أنتم مستعدون لخوض رحلة عبر الزمن، لتكونوا شاهدين على عظمة الأجداد، وتستمتعوا بعبقرية الأحفاد؟
التعليقات