ليست الكلمات مجرد أصوات تتناثر في العدم، ولا الأفعال حركات عابرة تُسجَّل في سجل الذاكرة. إنها، في حقيقتها، رموز منقوشة لا تنبض بالحياة إلا حين تلامس وعيًا آخر. هنا، تبدأ المأساة الفلسفية: فالمعنى ليس سجينًا في الكلمة، بل يولد في رحم الوعي الذي يستقبلها.
قد تخرج الجملة من فمك عفويةً، بيضاء كالنوايا التي تحملها، لكنها لا تصل إلى المتلقي كما غادرتك. في رحلتها القصيرة، تعبر مسارب الروح المعقدة: من صدمات الماضي، إلى تجارب الحياة، ومن جروح قديمة لا تندمل، إلى قناعات تشكلت مع الزمن. وعندما تكون هذه المسارب مظلمة أو مشحونة، تتحول كلماتك في وعي الآخر إلى شيء آخر تمامًا، ربما إلى نقيض ما قصدت.
هنا يشتعل الصدام، وتتجلى الهوة بين الذات والآخر.
القائل يصرخ في دهشة: "كيف فهمتني هكذا؟!"
والسامع يرد بصمتٍ أو غضب: "وكيف لا أفهمك هكذا؟!"
الواقع أن كلاهما محق في عالمه، وكلاهما مخطئ في عالم الآخر. القائل صادق في نقاء نواياه، لكنه يغفل أن النوايا لا تُترجم مباشرة إلى عقول الآخرين. والسامع مخلص لقراءته، لكنه ينسى أن قراءته ليست هي الحقيقة، بل مجرد انعكاسٍ لبنيانه الداخلي.
ما يحدث ليس مجرد سوء تفاهم عابر، بل هو كشف وجودي عميق: أننا لسنا مالكين للمعنى بعد أن نطلقه. بمجرد أن يتحرر الكلام من أفواهنا، يصبح ملكًا مشتركًا لعقول الآخرين، يعيدون تشكيله ليس كما يشاؤون، بل كما يستطيعون.
القائل يرى نفسه بريئًا، لكن السامع قد يراه وقحًا.
القائل يرى تصرفًا عفويًا، بينما السامع يقرأه إهانةً مقصودة.
الحقيقة لا تسكن في أيٍّ منهما، بل في تلك المسافة الوجودية بينهما؛ في الفراغ المليء بظلال الأنا وتفسيراتها. نحن محكومون بمرآة خلفياتنا، لا أحد منا يسمع الآخر كما هو، بل كما هو منقوش في أعماقه.
والمفارقة الأعمق، أن هذه الصدمة التفسيرية لا تصيب القائل وحده، بل تتسرب إلى السامع أيضًا. فبمجرد أن يدرك أن ما استقبله هو تشويه لما قُصِد، يواجه حقيقة وجودية مؤلمة: أنه لم يكن يتعامل مع الآخر، بل مع نسخته المشوهة داخله. هذه اللحظة تفتح جرحًا جديدًا في الوعي، جرح فقدان الثقة في قدرتنا على الاستقبال، وتكسر الوهم بأننا نرى الأشياء على حقيقتها.
المعضلة إذًا ليست في البحث عن "الحق"، بل في إدراك أن الحق يتجزأ ويتعدد بحسب زاوية الرؤية. قد يتمسك السامع بقراءته لأنه صادق مع تجربته الداخلية، وقد يصر القائل على براءته لأنه صادق مع نواياه. لكن الحقيقة النهائية لا يمكن أن تختزل في أيٍّ منهما.
هذا يكشف عن هشاشتنا الوجودية كبشر: نحن سجناء داخل رؤوسنا.
حين نتواصل، نحن في الواقع لا نرسل "كلمات" فقط، بل نطلق شرارات تفسيرية تشتعل في أرض الآخر وفق ما فيها من وقود وخبرات. لذلك، ربما تكون أرقى أشكال الحكمة هي أن نُدرك محدودية لغتنا، وأن نفتح مجالًا للآخر ليفسرنا قبل أن نحكم عليه. وأن نمنح نوايانا فرصة للظهور خلف سوء الفهم.
فالكلمات ليست مرآة صافية تعكس الواقع، بل أقنعة تكشف معانيها بقدر صفاء من يتأملها. ولهذا، يبقى السؤال الفلسفي الأعمق: هل يمكننا أن نجد من يتحدث لغة أرواحنا؟ فبدون هذا التناغم الوجودي، سنظل نترجم أنفسنا، نرهق قلوبنا وعقولنا في محاولة يائسة لجعل الآخر يفهم، بينما هو لا يرى إلا انعكاسًا لما فيه. هل يمكن أن نجد من يرى الروح فينا، لا الكلمات فقط؟
التعليقات