الإذاعة حتى الثمانينيات كانت هى السلاح الأول للوطن، الذخيرة الحية التى تشارك فى كل الملمات التى نعيشها، بحلوها ومُرّها.
رغم أن التليفزيون بدأ عام ١٩٦٠، وتحديدًا فى ٢١ يوليو، فإن الإذاعة ظلّت حتى بزوغ زمن الفضائيات (نهاية التسعينيات) قادرة على الصمود.
الآن، وأتمنى ألا يغضب أصدقائى الإذاعيون، لم يعد مؤشر المستمعين يتوجه سوى إلى محطة القرآن الكريم، والأغانى، والبرنامج الموسيقى، وربما البرنامج الثقافى، والباقى فقط لهم مكانتهم الأدبية فى القلوب، بينما حالة الشغف التى ربطت فى الماضى بين الأذن المصرية، بل وفى مرحلة سابقة كانت الأذن العربية منذ ١٩٥٣ مع «صوت العرب»، جعلت الإذاعة المصرية ليست ضيفًا، بل صاحبة مكان.. كل هذا تبدّل.
فى جيلنا، كنا ننتظر فوازير آمال فهمى، ومسلسل فؤاد المهندس وشويكار على البرنامج العام، وما يقدمه المخرج سمير عبد العظيم، وقبله المخرج محمد علوان على أثير الشرق الأوسط من أعمال درامية، وأصوات سامية صادق، وفهمى عمر، وعمر بطيشة، ووجدى الحكيم، وكامل البيطار، وسناء منصور، وصبرى سلامة، وإيناس جوهر، وأمينة صبرى، وحكمت الشربينى، وهالة الحديدى، وزينب سويدان، وعلى فايق زغلول، ومحمد مرعى، وغيرهم. سعدتُ جدًّا وأنا أتابع عددًا من هؤلاء الكبار فى يوم تكريمهم فى حفل سحور أقامته قناة «سكاى نيوز عربية» من خلال مديرها الإقليمى فى مصر، الإعلامى سمير عمر.
أرشيف الإذاعة المصرية كنز لا يفنى ولا يُقدَّر بثمن. حُرّاس الكنز، بحسن نية مشوبة بالخوف أو لعدم الدراية، وهو عذر أقبح من ذنب، لا يملكون الجرأة لفتح خزائن تعود إلى عام ١٩٣٤، مع بداية البث الرسمى للإذاعة المصرية، التى أنهت زمن عشوائية الإذاعات الأهلية. داخل الأرشيف، لدينا أشرطة مسموح بتداولها، إنها فقط «وش القفص»، وهى مادة تم بثها عشرات، بل مئات وآلاف المرات، وهناك ضوء أخضر يسمح بإعادتها وتدويرها، بينما الأخرى فى الممنوع. أنا لا أتحدث عن تسجيلات سياسية، سواء لرؤساء سابقين أو مسؤولين، ربما يكون هناك تحفظ ما على تداولها، لكننى أتناول مجرد أغنيات وبرامج وأحاديث لفنانين وأدباء سجلها مبدعونا فى مختلف المجالات، ولم يستعدها أحد.
لى تجربة عام ٢٠١٨، عندما حلّت مئوية الموسيقار الكبير محمد فوزى. تنبّهت الشقيقة الجزائر، لأنه لحّن نشيدها الوطنى «قسَمًا»، الذى أبدعه فوزى عام ١٩٥٧ أثناء الكفاح المسلح للشعب الجزائرى ضد المستعمر الفرنسى، وفى عام ١٩٦٣، بعد قيام الجمهورية، صار هو السلام الوطنى، ولهذا منح الرئيس الجزائرى الأسبق عبد العزيز بوتفليقة أرفع الأوسمة لفوزى، وأطلق اسمه على معهد الموسيقى.
اتصلتُ بالمسؤول السابق عن إذاعة الأغانى الرسمية، فقال لى: صريحة، لا نحتفل بأعياد ميلاد سوى لثلاثة فقط من الراحلين: أم كلثوم، وعبد الوهاب، وعبد الحليم، بينما الآخرون فقط ذكرى الرحيل. قلتُ: ولكنها مئوية فوزى، ولا تحدث فى الزمن سوى مرة واحدة.
التعليقات