عندما جاءتني دعوة من إحدى الشركات الأوروبية العريقة في مجال المنتجات السريعة الإستهلاك بمناسبة عيدها الثمان والثمانين. فكرت وأنا اقرأ الدعوة عن مدى قدرة هذه الشركة على أن تعيش كل هذه الفترة الزمنية، أكثر من غيرها. وهي التي تخبطت في العقد الماضي بالكثير من المطبات كادت أن تقضي على عمرها بلا مبالغة.
ومن منطلق خبرتي في المؤسسات الدولية منها والمحلية، لا أدري ما مدى قدرة هذه الشركة على تطيل عمرها أكثر، وهي التي ترصد الملايين والملايين من ميزانياتها في تطوير استراتيجيات عمل تبقى ناقصة، إذا أنها لا تتكلل بتصور استراتيجي واضح المعالم وحاد الرؤى. إن الفشل في القيام بالتصور الاستراتيجي هو تخطيط مسبق لفشل استراتيجي. فالتخطيط الاستراتيجي هو تخطيط بعيد المدى يأخذ في الاعتبار المتغيرات الداخلية والخارجية.
إن الفخ الكبير الذي تقع فيه الشركات (المحلية منها والدولية) هو أنهم لا يردمون الفجوة بين التصور الإستراتيجي ، وبين التخطيط الإستراتيجي.والواقع أن الوصول الى التصور الإستراتيجي الفعال، هو أهم عنصر من عناصر النجاح المؤسسي، وهو المادة التي تنصهر فيها عملية التخطيط الاستراتيجي.
في منطقة الفكر الإداري لا يعتبرون التخطيط الاستراتيجي عملية متجددة يتم تحديثها بشكل دوري وفقاً للمستجدات الجديدة.والتخطيط الاستراتيجي الذي سبقه تصور استراتيجي يجب أن يحدث باستمرار وفقاً للظروف المستجدة.
ولا يتم مشاركة كافة الإدارات العليا في صياغة التصور الاستراتيجي لها، مما يطعن الغاية الاساسية من هذه العملية التي تعمل على خلق الإطار الذي يجب أن يعتمده التخطيط الاستراتيجي لجعل الأهداف العامة للشركة واضحة لجميع الفئات.فالتخطيط الاستراتيجي الذي لا يسبقه تصور استراتيجي هو تخطيط استراتيجي طويل الأمد لفشل هذه المؤسسة أو تلك الشركة بغض النظر عن موقعها التنافسي أو عمرها المديد.والشركات التي نجحت في تخطيطها الاستراتيجي قامت بوضع تصور استراتيجي ما من حيث تدري أو لا تدري.فالتخطيط الاستراتيجي الذي ينقصه تصوراُ استراتيجياً هو مضر للشركة ولا يمكن أن يكون مفيد لها على الاطلاق واذا افادها فيكون ذلك من باب الحظ أو لظروف سوقية ملائمة.
فعلاقة التصور الإستراتيجي بالتخطيط الاستراتيجي هي مثل علاقة الحصان والعربة،
حيث يقود التصور التخطيط،، وهو تعمل على تفعيل أداء الشركات، وإطالة عمرها، وتعزيز رقعة تواجدها، وتفعيل علاقاتها مع محيطها، واستثمار مواردها البشرية وعملائها.
بين الفكر الاستراتيجي، والفكر التكتيكي
وبين الأداء الاستراتيجي، والأداء التكتيكي
مثال غربي (بروكتر آند غامبل)
وإذا اخذنا شركة "بروكتر اند جامبل" كمثال، فإننا نرى بأن الشركة نجحت بكل المقاييس في تحديد افقها الاستراتيجي عكس شركات اخرى تعمل بنفس القطاع، انغمست في زواريب التكتيكات الضيقة، التي ستقضي حتماً على عمرها الذي وصل الى مرحلة الكهولة مبكراً ومبكراً جداً بحسب رأيي.وقد نجحت "بروكتر أند جامبل" لأن رؤيتها الاستراتيجية تعتمد بشكل حاسم على التطوير الداخلي للقوى البشرية، لأنها تؤمن عن قناعة راسخة بأن عملاءها الأولين هم موظفيها.
مثال عربي (أرامكو السعودية)
وإذا اردنا أن نتطلع الى المؤسسات العربية التي نجحت في تبني رؤية استراتيجية قوية من حيث درت أو لا تدري هي شركة "ارامكو" السعودية والتي تعتبر احدى أكبر عمالقة النفط في العالم.
ولنعط مثالاً على ذلك.. حرصت الشركة منذ نشأتها على تطبيق أنظمة السلامة وقواعدها، فمنذ أربعينيات القرن الماضي، اهتمت الشركة بأمور السلامة، خصوصاً في مواقع العمل، فتبنت برامج توعوية لموظفيها، لتعليمهم أنظمة السلامة وقواعده.وإن دل ذلك على شيء فإنه يدل على الرؤية الاستراتيجية الواضحة السليمة للشركة، التي وضعت على رأس قائمة أولياتها عملية رعاية قواها العاملة، لإيمانها بالدور المحوري لهؤلاء في تعزيز تواجدها لعقود وعقود.
كانت استراتيجيتها بطيئة الخطوات وواثقة النتائج مبنية على الكسب الطويل الأمد لا الربح السريع ذا الافق الضيق.والتصور الاستراتيجي الملهم يجيد التعامل مع أنماط التغيير والتي تتحدد وفقا لاحتياجات العميل، وهذا هو "اكسير" عمر الشركات.فالعميل هو من يمد الشركات بعمر مديد أو يقصفه بلا سابق انذاروكما تعتبر الرؤية الاستراتيجية الركيزة الأساسية لبناء المؤسسات، وهي المحرك الأساسي لها،فإن التصور الإستراتيجي هو الفكرة المبتكرة المتميزة، والتي بدونها لا يمكن المنافسة في الاسواق التي تعمل فيها.وإن بناء تصور استراتيجي ذكي متكامل للمؤسسات، تسبق عملية رسم اية استراتيجية، وتسبق التخطيط الاستراتيجي.. عامة كانت أو خاصة، محلية كانت الشركة أو عالمية. ومن ثم يأتي دور العمل على بلورة اسلوب تنفيذي فعال، يستطيع تحول الفكر الى واقع. رؤية علميلقد بات من الضروري على الشركات في كل مكان أن تركز كل طاقاتها الفكرية المبدعة لرسم تصورات استراتيجيةً ذكيةً لها، تحقق من خلالها الإمتداد والبقاء والتأثير المطلوب في المجتمع والحياة، بدلا من التركيز على النجاحات السريعة، الذي يركز على تحقيق أرباح سريعة.. تحقق من خلالها اهدافها العامة وتطول عمرها الى اقصى حد ممكن.
ومع توجه العالم الحديث نحو التكتلات الإقتصادية الضخمة وتحرير الحركة التجارية، وفي ظل التحولات الأخيرة التي تشهدها الشركات العربية، باتت الحاجة ماسة لإيلاء عملية التصور الاستراتيجي العناية اللازمة في الوطن العربي لحجز لشركاتنا العربية موقع في السوق العربية.
د / علي شراب
( خبير اداري دولي )
التعليقات