(يعيش الإنسان مرتين؛ مرة في أرض الواقع ومرة في أرض الذكريات. يغادرنا الواقع لكن لا تغادرنا الذكريات فنعيش معها عدد ما نتذكرها). هذا ما استهللت به كتابي (على نهر كلايد) وهذا ما يراودني كلما فتحت ألبوم صور قديم أو تصفحت دفتر مذكرات اصفر ورقه لكن تعتقت حكاياته كعطر فاخر شديد التركيز. عجيب أمر الروائح التي ما إن تتغلل في نفوسنا حتى تنقلنا بأعجوبة إلى مكان قديم وزمان أقدم. تكفينا رائحة خبيز شهي أو عطر مميز أو حتى عبق تاريخ لا يعلم بوجوده غيرنا حتى نجد أنفسنا في لمح البصر وقد تبدل الحال من حولنا وحاوطتنا وجوه أشخاص مختلفين ومحيط لم يعشه سوانا. مذاق طعام حلو أو مالح أو حتى مر له مفعول السحر وله قدرة خارقة على كبس زر يحيي حكايات عفى عليها الدهر ويسترجع مشاعر وأحاسيس ظنناها مضت بلا رجعة!
لنتصور عالما بلا ذكريات وذاكرة بلا ماضي. ترى هل سنكون أكثر سكونا؟ هل سنحرم أنفسنا ابتسامة رضا أو نوفر عليها غصة حلق مرة لا نملك منها فكاكا؟ لماذا نتذكر ما مضى أفلا يكفينا أن نواصل الحياة وعفى الله عما سلف؟ ما كان واقعا معاشا يوما ما تحول إلى ماضٍ تذروه الرياح. ذهبت الأحداث مع من ذهبوا من أصحابها ممن فعلها وقالها وتسبب فيها فلماذا نتذكرها؟ لماذا نملك عهدا سابقا يتحكم في حاضرنا ويؤثر على مسيرتنا في الحياة. واقع بلا خلفيات وخبرات سابقة يمكن أن يجنبنا الكثير من الألم والحسرة والندم. ننسى أخطاءنا كأن لم تكن ونتجاوز عن تقصيرنا بوجود فرص يومية متجددة لا تشوبها شوائب تعكر صفو أدائها. نقوم بالأفعال وكأنها أول مرة فنترقب نتائجها وننتظر ردة الفعل دون تاريخ يوجهنا.
الذكريات بحلوها ومرها وقود الحياة وكما أن هناك ما نود نسيانه كلية هناك ما نود لو أن الزمن توقف عنده ولم يمر. كم من مواقف وحكايات ولحظات تمنينا لو أنها دامت ما دامت الحياة تدب في أوصالنا. كيف نتعلم من أخطائنا وكيف نتجنب ما يؤذينا بلا ذاكرة حاضرة. من ينسى لسعة النار سيظل يقترب منها غير عابيء وغير مدرك لشرها. بلا خبرة ووعي سابق سنقع في الحفرة كل مرة دون أن نتعلم الدرس. من يبكي اليوم قد نسي أن الشمس تشرق كل صباح وأن الدمع إلى زوال.
الذكريات ملاذ آمن نلجأ إليه في وقت الشدة مستلهمين العبر والعظات. وهي ظل لطيف نركن إليه كلما قست علينا الحياة فنجلس ملتمسين الراحة من عناء الحياة وكبد المعيشة. نتذكر اللحظات الحلوة فنشحذ الهمة ونتزود بوقود كافٍ لمؤونة الطريق. بين جنبات الذكريات نملأ رئتينا بالهواء لنتمكن من مواصلة الغوص بحثا عن كنوز الحياة والغاية من وجودنا فيها.
نتنهد رضا أونزدرد لعابنا حسرة وفي الحالتين تداعبنا ذكرى سابقة تركت أثرها داخل النفس والعقل. من يملك الذكريات محظوظ ومن لا يملكها شقي. الجعبة الممتلئة بالحكايات والخبرات خير من الخواء فبغيرها يطول الطريق ويقفر بلا ظل ظليل ولا منزل للراحة. الحكمة هي خلاصة ماضٍ تعلمنا منه وحاضر نسير فيه بثقة ومستقبل نضعه نصب أعيننا.
التعليقات