فى احتفالنا بالذكرى ٥٤ لرحيل عبدالناصر نحاول أن نستعيد معا بعض حكايات عبدالناصر مع الفن والفنانين بحلوها ومرها.
المؤكد أن جمال عبدالناصر كان يتمتع بحس فنى، ولديه قناعة بأهمية الأغنية والمسرحية والفيلم والرواية، فى إيصال الرسائل الوطنية، كما أنه منذ بواكير الشباب وهو يقرأ الأدب وتأثره برواية (عودة الروح) لتوفيق الحكيم ومحاولته كتابة قصة على نفس المنوال (فى سبيل الحرية) تؤكد ذلك، ناهيك عن حمايته الشخصية لتوفيق الحكيم عند اتهامه بسرقة العديد من أعماله الأدبية فى تلك الحملة التى قادها الأديب أحمد رشدى صالح ومنها روايتا (حمارى قال لى) و( حمار الحكيم) من الأديب الإسبانى خمينيز.
وعلى الفور وحتى تتوقف الألسنة منحه عبدالناصر أرفع الأوسمة ١٩٥٨ (قلادة النيل)، قبلها بثلاث سنوات عبر عبدالناصر عن حبه لفريد الأطرش وحضر بدلا منه العرض الخاص لفيلمه (عهد الهوى) فى سينما (ديانا)، عندما أصيب فريد بذبحة صدرية حالت دون حضوره، وجه الدعوة للرئيس فوافق أن يستقبل بدلا منه ضيوفه فى السينما. وقبل رحيل عبدالناصر ١٩٧٠ بأشهر قليلة عندما احتدم الخلاف بين القطبين فريد الأطرش وعبدالحليم على حفل الربيع، ومن ينال شرف النقل على الهواء، لم يكن التليفزيون وقتها من الناحية التقنية يملك نقل الحفلين معا، صعد وزير الإعلام وقتها دكتور عبدالقادر حاتم الأمر لعبدالناصر، وقرر ناصر أن فريد هو الأولى بالعرض على الهواء، وأن يسجل حفل عبد الحليم ويعرض اليوم التالى.
وكلنا نعرف طبعا الحكاية الشهيرة عندما أبعد عبد الناصر الضابط الذى كان مسؤولا عن الإذاعة، وقرر بعد ثورة ٢٣ يوليو مباشرة، منع أغنيات أم كلثوم وعبدالوهاب لأنهما غنيا للملك ولا يجوز أن يصبح لهما تواجد فى العهد الجديد. الحقيقة تفرض علينا ألا نكتفى فقط بوجه واحد، صورة مثالية ناصعة البياض للزعيم جمال عبد الناصر نتجاهل أنه إنسان كان يغضب ويثور ويغار.
من الصفحات التى نادراً ما يتم تداولها فى الصحافة والإعلام، الانتقام الذى تعرض له اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية على يد عبدالناصر، لن أتحدث عن التفاصيل السياسية ولكن أروى واقعة ذكرها لى الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس وكتبتها فى حوار طويل أجريته معه على صفحات مجلة (روزاليوسف) قبل نحو ٣٨ عامًا.. قال لى «إحسان» إنه كتب قصة فيلم «الله معنا» إخراج «أحمد بدرخان» فى أعقاب الثورة مباشرة، وكان من المفروض أن يصبح هو أول فيلم سينمائى يستقبل الثورة، إلا أن الرقابة التى كانت تابعة وقتها لوزارة الداخلية رفضت التصريح بالفيلم بدون إبداء الأسباب.
حاول «إحسان» أن يحمى فيلمه والذى تناول قضية الأسلحة الفاسدة والتى سبق أن فجرها «إحسان» فى أكثر من مقال صحفى، وباءت كل محاولاته بالفشل، مر على هذه الواقعة عامان، ولم يجد أمامه سوى اللجوء إلى صديقه «جمال عبدالناصر» بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية.. قال له «عبدالناصر» - كما ذكر لى إحسان حرفيا – قالولى إنك مطلع أمى «غسالة» فى الفيلم.
كان يقصد أن هناك من قال لعبد الناصر إنه أشار إليه بالرمز وإلى عائلته باعتبارهم فقراء لا يجدون قوت يومهم، ونفى تماما «إحسان عبدالقدوس» ذلك وطلب من «عبدالناصر» مشاهدة الفيلم قبل أن يصدر حكمه عليه ووافق «عبدالناصر» على أحداث الفيلم كاملاً والذى كان يرمز إلى تقديم رجال الثورة بدون أن يذكر صراحة أسماءهم، لكنه اشترط أن يتم حذف دور درامى كانت تشير إليه الأحداث وهو «محمد نجيب»، لعب دوره زكى طليمات، ولا توجد له أى إشارة فى الأرشيف، إلا فقط صورة لزكى طليمات وهو يمسك عصا المارشال مثلما كان يفعل محمد نجيب؟!.
تصور «جمال عبدالناصر» أنه من الممكن أن يلغى صفحة من التاريخ وهو دور «محمد نجيب»، وبالطبع لم نر أى فيلم سينمائى يشير للثورة وبه ملمح لمحمد نجيب، وكانت الدولة حريصة على ذلك فى الكتب الدراسية وكذلك البرامج الإذاعية والتليفزيونية أغفلت تماماً اسم نجيب ولا يدرك الكثيرون أن اسم «محمد نجيب» ذكر فى أحد المونولوجات التى أداها إسماعيل ياسين فى مطلع الثورة فى فيلم (اللص الظريف) المونولوج أضيف بعد تصوير الفيلم (٢٠ مليون وزيادة) المقصود بالرقم عدد سكان مصر وقت قيام الثورة وبه مقطع (الجيش ونجيب / عملوا ترتيب)، حيث أن توصيف (الثورة) قد تم اعتماده بعد هذا المونولوج، الذى صار بعد ذلك مقره الدائم هو الأرشيف ممنوعا من التداول.
الحقيقة دائماً أقوى من أى تعتيم وهكذا أعاد الرئيس أنور السادات اسم نجيب للحياة، وأعاد الرئيس عبدالفتاح السيسى إطلاق اسمه على العديد من الأماكن الحيوية وعادت صورته تتصدر المشهد.
عبدالناصر من الممكن ان تطلق عليه صفة (سميع)، وكان مثل أغلب جيله من المتيمين بأم كلثوم، يذهب إلى حفلاتها بصحبة شخصية سياسية وأحيانا بمفرده، الظاهرة الجديرة بالدراسة أنه كان متحفظا اجتماعيا، فلم تذهب معه ولا مرة زوجته السيدة تحية كاظم، رغم أن حفلات أم كلثوم كانت تشهد دائما حضور الزوج والزوجة معا، لا حظت أيضا أن أكثر أغنية تكررت فى حضور الرئيس هى ( أروح لمين)، أتصور وهذا مجرد اجتهاد شخصى منى أن تلك هى أغنية الرئيس المفضلة.
وأم كلثوم كنوع من التحية للرئيس عندما تعلم بتواجده تقدمها، طلب عبدالناصر من وزير الإعلام الأسبق محمد فايق إعادة المطربة صباح إلى مصر بعد أن سافرت بسبب مضايقات أمنية، أيضا مشكلات مع الضرائب.
عبدالناصر كان حريصا على أن تلعب السينما دورها فى توثيق الحياة السياسية، وهكذا استدعى فريد شوقى النجم الشعبى الأول عام ١٩٥٦ لتقديم فيلم (بورسعيد) إخراج عزالدين ذوالفقار، وشاركته البطولة هدى سلطان، وهو بالمناسبة من أضعف أفلام عز وفريد وهدى، وتلك حكاية أخرى.
مؤكد أيضا أن عبد الناصر ساهم فى تشجيع إنتاج أفلام عن القوات المسلحة المصرية بدأت عام ١٩٥٥ (إسماعيل ياسين فى الجيش)، وتمتعت هذه الأفلام بقدر كبير من الحرية فى التناول، لأن الهدف الأسمى هو تشجيع الشباب للتطوع بالجيش، وإسماعيل كان من أحب الكوميديانات لقلب عبد الناصر، ابنه ياسين كان صديقا لخالد جمال عبدالناصر.
أسوأ قرار اتخذه عبدالناصر هو تأميم صناعة السينما منذ مطلع الستينيات، وبرغم أنه فى استفتاء أفضل ١٠٠ فيلم روائى طوال تاريخ السينما المصرية الذى أجراه مهرجان القاهرة عام ١٩٩٦، اكتشفنا أن نصفها إنتاج الدولة، إلا أن هذا لا يبرر خطأ مبدأ تأميم الفن. بعد هزيمة ٦٧ أصدر عبدالناصر أوامره بفتح الباب أمام الانتقادات التى وجهت للعديد من الممارسات الاجتماعية والسياسية، وأيضا الكيانات التى كان من المستحيل الاقتراب منها مثل (الاتحاد الاشتراكى).
يقولون إن عبدالناصر هو الذى منح الضوء الأخضر لعرض فيلم (شىء من الخوف) قصة ثروت أباظة وإخراج حسين كمال وبطولة شادية ومحمود مرسى، وهى حقيقة موثقة، إلا أن الوجه الآخر للصورة، أنه لم يمنح صلاحيات لأحد سوى عبدالناصر.
الدليل أن هذا الشريط شاهده مؤكد عام ١٩٦٩ وزير الثقافة دكتور ثروت عكاشة وتردد فى اتخاذ قرار العرض، ثم شاهده نائب رئيس الجمهورية أنور السادات، ولم يجرؤ أيضا على الموافقة، رغم أنهما وهذا منطقى جدا لم يجدا فى الشريط أى تعريض بعبدالناصر، أو شرعية الثورة، إلا أنهما أخذا بالأحوط وتركا القرار للرئيس.
التعليقات