عندما كنت صغيرة كان أبي رحمه الله يصطحبنا إلى حديقة الأطفال في نادي سبورتنج بالإسكندرية يوم الاجازة نلعب ونمرح ونستمتع بعد ذلك بالغذاء في مطعم النادي الفاخر بال club house.
حديقة الأطفال والتي لاتزال تحتفظ بشكلها العام القديم إلى الآن، كان ولا يزال ملحقا بها مكتبة للأطفال.
عندما كنت أدخل فيها كنت اطمئن، لا أعرف إلى الآن لماذا؟
بين أرفف الكتب والقصص والحكايات كنت استعير ما يأخذني خارج عالمي إلى دنيا أخرى أحب أن أعيش فيها.
وكبرت … فأصبحت أُبْقي قلبي بجوار ما اسميه "بأشياء تشبهنا".
في كل مرة أدخل فيها مكتبة لها طابع العراقة والقِدَم استدعي هذا الشعور بالسعادة الذي لا زال يتأرجح في روحي.
الأسبوع الماضي شربت كوب من القهوة في مكان جديد بالإسكندرية، كوب القهوة ذهب بي إلى المكتبة وأجلسني هناك.
عند عودتي إلى القاهرة، قمت بوضع عطر قديم احبه، العطر أوصلني للمكتبة وفي يدي كوب القهوة.
ثم جلست أشاهد فيلم الأيدي الناعمة للمرة الخمسون بعد المائة، وأنا أضع عطري وفي يدي كوب القهوة وروحي ترتحل إلى المكتبة.
في الصباح قمت بتحضير الطعام، كان اللحم بالبطاطس شهي جدا ما جعل ابنتي الصغيرة أشادت بطعم وجبتها، فجلسنا أمام الفيلم والقهوة طعمها في فمي، العطر في يدي وروحي هائمة في المكتبة.
كل الأشياء في دنيانا لها ترددات تستقبلها أرواحنا. فإذا أردت أن تشعر بسعادة مطمئنة ابقى هناك.
الإبتسامة التي تتذكر بها شخصا أحببته أو فقدته، تلك اللمحة الحانية التي تطل على قلبك كلما مررت على البيوت الصغيرة الدافئة.
رائحة البحر وتكسر امواجه، صوت هدير الموج في الليل ورائحة اليود، أوراق الخريف البرتقالية وصوت حفيفها، السحب البيضاء والرمادية التي تغطي السماء بخجل، الطريق الأخضر المنطوي وأنت جالس في القطار، مجرى الماء الأزرق الذي تحرسه عيدان الذرة الخضراء وتهبط على سطحه طيورا بيضاء، إحساس الدفء وأنا أضع شالا يغطي أكتافي من برودة الشتاء، كوبي الأزرق المليء بالكاكاو ويداي تلتف حوله لتمتص الدفء والأمان، القطعة الموسيقية التي اسمعها واكررها للمرة الألف فقط لأنها تبقي قلبي حيث يود البقاء…
كلها يا صديقي أشياء شبيهة بالسعادة، أشياء تشبهنا، أود دوما البقاء بداخلها.
كلماتي اليوم لكل من أصبح بفتقد النسخة المريحة من قلبه، لكل من يبحث في لقطات صوره الماضية عن روحه السعيدة وعن ملامح وجه مريحة وقسمات أكثر اطمئنانا.
صديقي، لماذا عندما تمر على مطعم كنت ترتاده مع أهلك أو أصحابك تشعر بالسعادة؟ لماذا المكتبات ذات الأرفف الخشبية والمقاعد العتيقة تسلبك تلابيب عقلك؟ كيف لطعم شيء ما أو رائحة أن تسبب لك السعادة؟ ماذا عن صديق مدرستك القديم الذي لم تره من عشرات السنين؟
آفة عصرنا أننا فقدنا لغة الحوار بيننا وبين أنفسنا. لم نعد نسأل أنفسنا أين تود الذهاب؟ وماذا تفضل أن تأكل أو تسمع؟
الأسوأ أننا لا نهتم أن نعيش في ذكرياتنا الجميلة، ولا نجتهد لصناعة حاضر يكافيء الماضي الأخضر، بل نأخذ وقتنا بشدة لنلعن الوقت والظروف والأماكن والناس.
رحلتك لبعض الأماكن وراحتك فيها دون غيرها، حبك لأشخاص بعينهم والبهجة الملاحظة عليك في وجودهم، قراءتك لكتاب معين عدد لانهائي من المرات، الإبتسامة التي تشرق على قلبك كلما غمرتك الذكريات، تأثرك بمشهادة الغروب على صخرة معينة على شاطيء البحر،
ذلك الشعور الدافئ الذي يغمرك كلما فتحت حقيبة ذكرياتك، الحضن الطويل الذي تخص به صديق تحبه، يدك التي تربت لإراديا فوق كتف من يحادثك، ذوقك المتكرر في إنتقاء الملابس والألوان، إبتسامتك اللإرادية وأنت تفعل كل ذلك وأنت مطمئن.
الرابط المشترك الوحيد بين هذه الأشياء هو أنها تشبهك، تردداتها توافق مستقبلات روحك … ستكون معها وبها ومن خلالها في تلك المكتبة في يدك كوب قهوتك والعطر لا يزال جذابا تسمع صوت فيلمك المفضل وتأكل وجبتك الشهية بجانب من تحب للأبد.
التعليقات