ولادة أديب... ولادة كتاب
تعرّفت إلى (حِكْمَتْ بَشْنَق) الإنسان والصَّديق بعد صدور مُعجمي (المُعْجَم في اللّغة والنحو والصَّرف والمُصطلحات 1/6) عام 2010 م، ثم أهديته إيّاه مع بقية كتبي عربونَ صداقةٍ.
وبعد فترة طويلة- وكنت أتابع صفحته على الفيس بوك- قرأت نصًّا جميلًا، فاتّصلت به مباشرة، ولأن علاقتي بـ (حِكْمَتْ بَشْنَق) وعائلته صارت علاقة صداقة فكريّة نتبادل فيها معلوماتنا، أردت نصحه، فقلت:
"لُطْفًا، عندما تنقل نصًّا من أحد الشُّعراء أرجو أن تضعَه بين قوسين إذا لم تعرف اسم القائل، فهذا يدلُّ على المصداقيّة".
استغرب نصيحتي المفاجئة، وأخبرني أن النّص له؛ فباركت له واعتذرت منه، وأخبرته أنه شاعر حقًّا!
قرّر (حِكْمَتْ بَشْنَق) أن يطبع مجموعة شعريّة، فشجعته على هذه الخطوةِ الجليلة، وفي لقاءاتِنا المتكرّرة، لاحظْتُ أنّه لطالما كانَ يذهبُ بعينيه بعيدًا بعيدًا. وعندما كنتُ أسأله، كان يُجيبني أنّه يحلم- مذ كان صغيرًا- أن يكتب عن والده، وأن يخلِّد ذكراه في كتاب يحافظ من خلاله على إرثه، وأخبرَني أنه جمع معظمَ الوثائق الّتي كانت بحوزة والده، وأخباره، وسجّل الكثير من تاريخ عائلة (بَشْنَق) التي رواها له.
وصدرت المجموعة الشّعرية الأولى: (ترانيم على أوتار العشق)، وما زال حِكْمَتْ يحلم بتوثيق حياة والده، إلى أن جاء اليوم الذّي اتَّصل بي وقال إنه سيزورني لتسليم وثائق كتاب أبيه، وقال بفرح: "ها قد أنهيت أخيرًا كتابَ والدي وأرسلته لكِ عبر الإيميل، وهذه هي الوثائق والصّور...".
فَرِحْتُ لأنَّه حقّق حُلمه، وكانت مفاجأتي عندما بدأت أُنَقِّحُ الكتابَ أنَّ السّرد السّهل الممتنعَ والممتعَ عرقل مهمّتي التَّصحيحيّة، لأنَّ رغبتي في التَّعرّف إلى هذا الشّخص المميّز (تَوفيق محمّد بَشْنَق) حال دوني والتَّصحيحَ.
شعرتُ أنني أرى ذلك الرَّجل يمسكُ بيده طفله الصّغير ويأخذه معه في زيارات رسميّة أثَّرت في شخصيّته مستقبلًا، فجعلَتْ منه ذلك الرجلَ المِقدامَ، الجريء، المتأهّبَ دائمًا لمساعدة الآخرين، والمتواضع، ومتى اجتمعت الجرأةُ والتَّواضُعُ، وُصِفَ المرءُ بالإنسانيّة الّتي لا أعتقد أن أحدًا تَعَرَّفَ إلى (حِكْمَتْ بَشْنَق) إلّا ووصفه بها، ومَن شابَه أباه ما ظَلَم.
يسرد الكاتبُ تفاصيلَ حياة أبيه منذ الطّفولة وحتّى وفاته، ويسلّط الضَّوء على إنجازاته في مجالات العمل الاجتماعي والدِّيني والسّياسي، كما يقدّم تفاصيل عن تاريخ عائلة (بَشْنَق) في لبنان وسوريا، وهو ما يُعتبر توثيقًا مهمًّا لجزء من التاريخ الاجتماعي في تلك المناطق.
كما يتناول الكتاب الدّور الّذي لعبته العائلة في الحروب والثّورات، مثل الثّورة السَّورية الكبرى، ما يجعله مرجعًا مهمًّا للتاريخ المحليّ، فالكتاب يؤكّد أهميّة توثيق التّاريخ الشّخصي للأفراد الّذين كان لهم تأثير كبير في المجتمع.
كتب حِكمت بشنق في مقدّمة الكتاب: "أن تكتبَ في التَّاريخ، لا بدَّ لك من أن تكون مُطّلعًا وباحثًا وأمينًا على كلّ حرف، لأنّه في النِّهاية يومًا ما، سيُصبح ما كتبْتَه تاريخًا، وأنت ستزول... من أجل ذلك لا بدَّ من أن يكون حرفُكَ ناطقًا بالصّدق، وصفحاتك مليئة بالوقائع المثبتة، سواء خطيّة عبر المستندات والوثائق، أو شفهيّة بحيث تنقل بأمانة ما سمعته وما سَمِعَهُ الغير، أو شاهدته وعشته من أقوال أو أحداث، بما يؤكّد صحّةَ وجدّيةَ صِدقِك في نقل الواقعة".
عاش (تَوفيق بَشْنَق) حياة مليئة بالتّحديات، وكان له دور مؤثّر في فترات حاسمة من تاريخ لبنان، وخاصة في قريته (مْرِسْتي) في منطقة الشوف، فهو لم يكن مجرد شاهد على الأحداث، بل كان فاعلًا في تشكيلها، خاصَّةً وأنّه عاش حياته متمسّكًا بمبادئ العطاء والوفاء والمشاركة، وأمضى حياته بالكَدِّ والجدّ، وانخرط في الحياة السّياسيّة الخاصّة والعامّة.
صفاتُهُ:
- تميّز بعدم التّطرف الطّائفيّ والمناطقيّ.
- نتيجة ثقة المجتمع المحلّي ومشايخ العقل به، كان كاتبًا لعقود الزّواج، كما كان محرِّرًا للوصايا والعقود الأخرى، كعقود البيع والمقاسمة وغيرها.
- كان يمتلك مخزونًا مهمًّا من الأخبار والحكايا والنّوادر الّتي كان يردّدها في سهراته، وكانت كلّها هادفة اجتماعيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا، وقد ذكرها (حِكْمَتْ بَشْنَق) في الفصل الخامس من كتابه، وقد قال في مقدّمة الكتاب: "لا بدَّ من الإشارة إلى أن معظم هذه القصص - والّتي سأنقلها وأدونها- معروفة ويتناقلها الجميع، لكنّ قيمتها كانت في الظّروفِ والأوقاتِ الّتي قِيلَتْ بها، وكان توفيق محمّد بَشْنَق يحفظُها ويُردّدها في السّهرات، في الوقت الّذي كانت الأُمّيّة تُسَيطرُ على معظم المجتمع المحلّيّ، ممّا يؤكدُ قدرةَ وتمكّن هذا الرّجل، ومستواه الثّقافي والفكري. ولا بدَّ من الإشارة إلى إحدى الأمور المهمّة، هي أن الكثيرَ من القصصِ أو النَّوادر والأخبار، كان يحكيها في أوقاتٍ مهمّة جدًّا، كَحَلِّ خِلاف أو طرحِ قضيّة ما، فتأتي القصّة مُواكِبةً للواقع والحالة، وغالبًا ما تكون سببًا مباشرًا لإنهاء نزاعٍ أو إثباتِ حقّ بالإقناعِ والمنطقِ السَّليم الهادئ، والأسلوب الشَّائق المريح.
الدّور الّذي قام به (تَوفيق محمّد بَشْنَق) في بيئته
- تخطّت علاقاته الاجتماعية نطاق بلدته (مْرِسْتِي) في منطقة الشّوف والقرى المجاورة، فبنى شبكةً من العلاقات في طول البلاد وعَرضها، ومع كلّ الطّوائف اللّبنانيّة، ما جعله مصدر ثقةٍ من الجميع، فكان يقوم بدور مهمٍّ في حلّ النّزاعات وتقديم المشورة في القضايا الاجتماعية، وكانت كلمته مسموعة لأنّه حَظِيَ باحترام كبير من قِبَل النّاس.
- أسهم في حلّ النزاعات المحلية، وتقديم النصائح، ومساعدة المجتمع من خلال مواقفه الثابتة والصادقة.
- كان على علاقة جيّدة مع كثيرٍ من الشّخصيّات السّياسيّة والدّينيّة في المنطقة، وكان له تأثير مباشر في تعزيز تلك العلاقات لصالح المجتمع. كما كانت له مواقف واضحة في دعم الاستقلال الوطني، وذلك مِن خلال علاقاته مع الزّعماء السّياسيّين ورجال الدين؛ مثل: (السّتّ نظيرة جنبلاط)، و(كمال جنبلاط)، و(الأمير مجيد أرسلان وزوجته الأميرة خولا)، و(الأمير فيصل أرسلان وطلال أرسلان)، والنّائب (مروان حمادة)، و(سماحة الشّيخ محمد أبو شقرا)، ما عزَّز دوره في تحقيق بعض الإنجازات التَّنمويّة، إضافة إلى علاقاته مع رجالات من الطَّوائف الأخرى.
- على الصّعيد التَّربويّ والثّقافي: تواصل مع المربّية الفاضلة (زاهية سلمان) وتحوّلت العلاقة إلى علاقة عائلية بامتياز، وكانت رئيسة (جمعيّة رعاية الطّفل اللّبناني)، وبالتّعاون بينهما تمَّ تأسيس فرع للجمعية في (مْرِسْتي)، وكانت زوجته السيدة (زَرافة رَضوان بَشْنَق) أوَّل معلّمة في هذه الدّار، وتناوب على التَّعليم في دار الجمعيّة عدد من السيّدات، ثم تسلَّمَت السّيدة (زَرافة رضوان بَشْنَق) الإدارة والتَّعليم في هذه الدَّار بطلب من السّيدة (زاهية سلمان)، وكانت السّيدة زرافة من خرّيجي مدرسة الصراط في مدينة (عاليه)، وكانت تُجِيد اللّغة الفرنسيّة وقد حفظ الأطفال الكثير من أغنيات الأطفال الفرنسيّة على يدها.
ولا بدّ هنا أن أذكر غلاف الكتاب وهو مِن تصميم: (عماد مهتار)، وقد وُضِعَتْ صورة للسيد (توفيق محمّد بَشْنَق) بلباسه التّقليدي ضمن إطار وخلفه امتدت صورة (مْرِسْتي) من الغلاف الأمامي إلى الخلفي مما يعطي للقارئ فكرة مسبقة عن الرّجل والبلد الذي ولد وعاش فيه عمره.
وقد ذكر (حِكْمَتْ بَشْنَق) في الفصل الأول تاريخ البلدة وموقعها وأصل الاسم بتفصيل ينمّ عن دراسة أكاديمية أجراها عنها، يقول في ص 16: [مرستي هو تحريف لكلمة EMRUSTA: نعجةٌ صغيرةٌ شاةٌ، وقد يكون اسمًا فينيقيًّا قديمًا MORESHETإرثٌ من جذر "يرش" يقابله في العربيّة ورث، وقد ورد الاسم في التوراة: سفر النّبي ميخا 14:1 وهي مدينة النّبي ميخا].
أخيرًا أقول: إنّ ولادة كتاب كولادة طفل، وكلّ كتاب يُولد في (دار النُّخْبَة للتّأليف والتَّرجمة والنَّشر) يعتبر ابنًا لهذه الدار، وأحتفي به شخصيًّا وبكاتبه، لأنّ كلّ كتاب يضيف إلى رصيد الدّار ودورها في نشر الثَّقافة وتشجيع الكتّاب أن يستمروا بالكتابة من دون خوف سَرِقَةِ جُهودهم.
التعليقات