هكذا كتبت فى تلك المساحة قبل نحو ثلاثة أشهر فقط، وكأننى أقرأ الغيب لما سوف يحدث، قبل تلك الضجة التى أثارها فيلم (ريش) بعد عرضه فى (الجونة).
كثيرا ما نهاجم السينما المصرية، تستوقفنا الحكاية ونردد السؤال المخزى الذى يتدثر عنوة بـ(سمعة مصر)، نقصد عادة أننا نسرف فى تقديم مشاهد بها تعاط وفساد وبلطجة وفقر، وغيرها، وكأننا نتاجر بالوطن، هل السينما هى الحكاية، أم أسلوب الفنان فى التناول، ماذا تقول ليس هو أبدا المفتاح، السحر الفنى يكمن فى كيف تقول؟ هذا هو السر، وهو ما برع فيه المخرج عمر الزهيرى، فاستحق عن جدارة جائزة أفضل فيلم فى مسابقة (أسبوع النقاد).
السينما فى العالم تقدم لغة مختلفة عما توقفنا عنده، لا يدرك أغلب السينمائيين أن ما يتحمسون له تجاوزه الزمن، تغيرت الأبجدية، ونسال أين نحن من العالم ولماذا ترفض أفلامنا دوليا؟ بينما لا يقرأ أغلب المبدعين الشفرة الجديدة.
السينما غيرت من أسلوب السرد فى الصوت والصورة، وقسط وافر توقفت أبجديته عند زمن ما قبل الألفية الثالثة.
عمر الزهيرى آخر عنقود الموهوبين العصريين، سبق أن شاهدت له فى (كان) أيضا، وأشدت به، قبل نحو سبع سنوات فيلمه القصير (ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375).
المخرج يملك روح المغامرة، لغته تشى بمذاق السخرية، وجاء (ريش) يكسر الخط الفاصل بين الواقعية والواقع، بات الواقع هو المسيطر، نجح أن يحيل العادى والمتعارف عليه إلى إبداع، لا يوجد ممثلون محترفون، أغلبهم يقفون أمام الكاميرا لأول مرة، الحركة والأداء طبيعية، نسى الجميع أن هناك كاميرا، المخرج شارك أحمد عامر كتابة السيناريو، الفيلم يحمل تعاطفا مع الفقراء، وتستوقفنا المرأة وهى تناضل عندما تتحمل المسؤولية، كثيرا ما جاء التكوين الدرامى فى المشاهد الخارجية بالشارع، والكاميرا من أعلى ليزداد إحساسنا بالتعاطف مع تلك الأسرة.
فى يوم عيد ميلاد أحد أطفاله وبقروشه القليلة التى استدان أغلبها يقيم حفلا، ويقدم الساحر تلك الفقرة، عندما يضع الزوج فى الصندوق الخشبى، ثم يفتح فيكتشف أنه صار دجاجة.
روح ساخرة بقدر ما هى قاتمة، ما الذى تفعله الأسرة، وما الذى أيضا يمارسه المجتمع فى حق الفقراء؟ تناضل المرأة المهددة فى كل شىء حتى جسدها، ونرى المشهد المؤثر: انتزاع الأثاث، الغسالة نصف اليدوية والتليفزيون المتهالك، وتواصل المرأة الكفاح، ثم تعثر على زوجها، نكتشف أنه فقد ذاكرته وقواه الجسدية لتبدأ هى أيضا فى علاجه.
الشريط الصوتى، برغم قسوة المأساة، تلمح فيه موسيقى وأغانى تشع البهجة مثل (دنيا جديدة علينا سعيدة) و(على وش القمر) لفايزة أحمد وموسيقى محمد سلطان، وتمتزج أيضا العديد من الأغانى والموسيقى المتفائلة بموسيقى بليغ والموجى وهانى شنودة.
نرى الفقراء وهم يمتلئون بروح التحدى، ونلمح قدرة المخرج فى الحفاظ على تلقائية ممثليه، وفى قيادته للأطفال، مهمة شاقة نجح فى عبورها محققا التعاطف مع الأسرة.
كنت أنتظر أن نقول مبروك لمصر على الإنجاز التاريخى، ومبروك ميلاد آخر عناقيد المبدعين عمر الزهيرى، بدلا من استخدام هذا السلاح (الفشنك) سمعة مصر، فعلوها عشرات المرات، وقبل 30 عاما طالبوا بسحب الجنسية من يوسف شاهين، كانوا رحماء بحفيده عمر، اكتفوا حتى الآن بصرخات الغضب!!.
التعليقات