عشت ثلاث سنوات كفرد ينتمي لأقلية عرقية تختلف كلية عن المكان المحيط؛ مصرية عربية مسلمة ترتدي الحجاب وتتحدث بلكنة إنجليزية مختلفة تماما وإن اتقنت اللغة نفسها بطلاقة. هذه السيدة التي هي أنا انطلقت في كل مكان في هذا البلد الغريب. وصلت مطار هيثرو في لندن أولا فوجدت نفسي محاطة ببشر مسافرين من كل حدب وصوب، ابتسامة ترحاب يلقيها الموظفون من هنا وهناك. كانت بداية مبشرة وإن كانت متوقعة فالمطار هو مهبط طائرات العالم كله ومن الطبيعي أن أرى جنسيات متعددة في ملابسهم القومية؛ هنود وصينيين وأفراقة بألوانهم الزاهية وملامحهم المميزة ولغاتهم التي لم أسمعها من قبل.
سرعان ما تركت بوتقة العالم لأنطلق بطيران داخلي شمالا في اتجاه مدينة جلاسجو في قلب اسكتلندا التي تشكل ثلث مساحة المملكة المتحدة. في مطار جلاسجو كان هبوط طائرتي الثاني وبداية الرحلة الحقيقية. ونظرة خاطفة كافية بمعرفة أن النسيج هنا لا يختلف كثيرا عن لندن. أحاطت بي وجوه المسافرين من أصقاع الأرض المختلفة. عزيت الأمر لوجود عدد من الجامعات المرموقة كالتي التحق بها زوجي لدراسة الدكتوراة فربما كل هؤلاء من الدارسين أيضا.
في أوائل أيامي كنت متهيبة للمكان وللهجة الجديدة التي تختلف كلية عن اللهجة الإنجليزية؛ لغة واحدة تتعدد لهجاتها ولكناتها وفقا لموقعها الجغرافي. يوما بعد يوم بدأ انصهاري في المجتمع الجديد. وجدت أنني مرحب بي في المكان. الحي الذي سكنا فيه متعدد الجنسيات والثقافات والأعراق. اتسعت ابتسامتي دهشة وأنا أتذكر كيف أنني كنت أعتقد أنني سأذهب إلى مجتمع أوروبي بامتياز فانتهي بي الحال لمجتمع متشابك متعدد الهويات. ومع كل تلك الاختلافات، كان الجميع يعيش في وئام وتقبل للآخر. وفد الباكستانيون والهنود للمملكة المتحدة منذ الستينات كمهاجرين ونجحوا في التجارة، والصناعة، واندمجوا في المجتمع فكان منهم جيل تلو جيل حتى وصلوا لمناصب سياسية وأصبحوا لحمة من المجتمع بكل فئاته ولا تخلو مستشفى أو مركز طبي من طبيب منهم. يافطات المحلات التجارية كانت تحمل أسماء عربية وكلمة(حلال) تتصدر الجزارات بكل أريحية.
كانت دهشتي تزداد يوما بعد يوم بعد أن اكتشفت أن نسيج هذا المجتمع لم يكن الطلبة الدارسين من كل أنحاء العالم بل اللاجئين والمهاجرين وكل من تقطعت بهم السبل في بلادهم. كان الجميع مرحب بهم وكان التعايش سمة لا تخطئها عين. لم أر تحيزا ولا عنصرية في المدارس يوم التحق بها أبنائي وكانت المدرسة نموذجا مصغرا للوحة متعددة الألوان والخلفيات. شعائرنا الدينية كانت موضع احترام فلم يسخر منها أحد ولم يجبرنا أحد على التخلي عنها. بالعكس تماما، احترمت المعلمات الاختلاف وكان مقصف المدرسة يقدم الوجبات (الحلال) لأبناء الجالية المسلمة. في رمضان كان احترام صوم الطلبة للشهر الكريم حاضرا. لم ولن أنسى الخطاب الذي أرسلته لي مديرة المدرسة مهنئة ثم مستفسرة عما أفضل لابني وهو صائم فيما يخص اللعب أم الجلوس للقراءة في وقت الاستراحة. سألتني أيضا إن كنت أفضل أن يقرأ كتابا خاصا بالشهر الكريم أم أنها تستطيع اقتراح كتب له!
تطور بي الأمر فذهبت لمقاعد الدراسة كطالبة فلم ألق إلا الاحترام والتقدير.كنت أركب المواصلات العامة في شتاء اسكتلندا القارس وليلها شديد الهدوء والأمطار فلم أتعرض للأذى. لم يكن هناك مكان للعنصرية في هذا البلد. وضعت طفلي الثالث في المستشفى فلم أشك من اضطهاد أو مضايقات. لم يخل الأمر قطعا من عدة حوادث ومضايقات تعرضت لها لكنها كانت مواقف فردية لا تعبر إلا عن أصحابها وكان أصدقائي من أهل البلد يرفضونها جملة وتفصيلا عندما أقص عليهم ما حدث معي. (هؤلاء لا يمثلوننا!)
ماذا حدث إذا في اليومين السابقين؟ لا أكاد أصدق ما أراه وأنا أتابع شاشات التلفاز والفيسبوك. متى تحول الناس إلى كارهين؟ من نثر بذور العنصرية والاضطهاد؟ لقد كان هذا المجتمع مثاليا في تقبله للآخر وتعايشهم المشترك المبني على الاحترام والإنسانية. بثت السياسة سمومها بين الشعوب فأحالتها إلى كائن قاسٍ يفتقد إلى إنسانيته. كنا نصلي في الحدائق على رؤوس الأشهاد فلم يتعرض لنا أحد فكيف نجحوا في جعلهم يشعلون المساجد ويقتحمون المتاجر؟ لا أتخيل نفسي حبيسة المنزل لأيام لأنني خائفة من النزول للشارع حتى لشراء زجاجة حليب لأطفالي! أنا التي كنت أجوب الشوارع بحقيبة ظهر وخريطة في يدي في زمن ما قبل نظام تحديد المواقع العالميGPS فلم أخش أن أضل الطريق ولم أتوانَ عن سؤال المارة الذين كانوا يجيبون بكل لطف.
هذا الشعب الذي تفصله عن أوطاننا العربية بحار وجبال وقف مع شعب غزة المظلوم هذا العام وقفة شهد له بها العالم كله. كانت هذه الإنسانية في أبهى صورها عندما تتجرد من مثالب السياسة وأهوائها الدفينة. كانوا غصة في حلق الظالم المعتدي بردود أفعال صادقة غير متوقعة. أنا على يقين بأن هذا التوتر إلى زوال وأن تاريخ التعايش قبول الآخر الذي لمسته بنفسي أقوى من الشقاق وسرعان ما ستذروه رياح العنصرية.
ليس من سمع كمن رأى. تجربتي الشخصية كانت مثالا للسلام والتعايش. لم أر إلا خيرا ولم أعمل إلا خيرا. الإنسان قادر على استخلاص أفضل ما في أخيه الإنسان إن حكم عقله وأطلق العنان لعواطف ملؤها الرحمة والطيبة. علمنا ديننا أن (لكم دينكم ولي دين) أي أن للآخر حق أصيل في مساحة من الاختلاف والحرية يتحرك فيها. مساحة ملكه هو لا دخل لي فيها. نتشارك في مصالحنا المشتركة ويحترم كل منا مساحة الآخر الخاصة جدا. لن يخلو الأمر من (آخر) لا يشبه من يحيط به لكن من قال إن هذا (الآخر) ينتقص منا ولا يضيف لنا ؟!
التعليقات