قبل عيد الأضحى بأيام قليلة رجعت إلى بيتي في الإسكندرية، خرجت إلى الشرفة اتفقد طيوري فوجدت إنثى أحد الأقفاص قد ماتت وذكر في قفص آخر مات أيضا.
لاحظت حالة من الكآبة تحوم حول الطيور، هم أبنائي ولكنهم بأجنحة تحلق أصواتهم على رجاء قلبي.
وقفت أمام القفصين حزينة بدوري، ثم واتتني فكرة نفذتها على الفور، أدخلت الذكر الاسترالي السماوي اللون داخل قفص الأنثى الصفراء، وفي ثواني معدودة وجدت تآلف غير عادي بين الطائرين.
رفرفت الأربعة أجنحة وتقارب الزوجان، تآلفت أرواحهما، التصقا ببعضهما البعض ثم نهلا من قبلات نهر الحب في لحظات اسميتها بمعاودة الحياة.
أي إنسان عَبَر بهذا الموقف سيقف حتما مشدوها. للحظات طاف بذهني معان جليلة للوفاء فانفجرت ضاحكة بشدة، لكني لم ألبث أن غيرت تفكيري بأن الموقف يحيي معنى وحيد وهو "حي على الحياة".
نعم يا صديقي حي على الحياة!
تلك الكائنات الرقيقة الدؤوبة في حياتها الإجتماعية المخلصة لفروخها يؤلمها الموت وتحترم الوفاء لكنها تدرك الأهمية الحقيقية لمعاودة الحياة، ما بالك من يمتلك حياة فعلا ولا يقدرها ولا يفطن لأهمية ما يملك.
رغم اختلافي مع ما حدث وعدم تقبلي له وعدم قدرتي وموافقتي على تطبيقه بهذه الكيفية في حياة البشر؛ فالوفاء في نظري قدس أقداس القلوب، لكني وقفت طويلا أمام الرسالة من وراء الموقف.
سنة الله على الأرض هي استمرار إقامة الحياة بكل أشكالها وصورها المبهجة.
برغم ذلك كلنا نعرف الكثير من الأشخاص يعيشون نفسيا سويا تحت سطح الأرض حياة خالية من طقوس المودة … حياة خاوية على عروشها.
يظن أغلب الناس أن هناك سعادات كثيرة ستصادفهم في طريق ما، والبعض الآخر يتصور أن بعض التغيير يأتي بالكثير من يسر الحياة … ولكن كله يا سيدي مرهون بعطائك واستشعارك النعم وقدرتك على الحفاظ عليها.
صديقي إن سعادتك مقيدة بإيمانك أنك لن تحصل على شيء لم تبذل فيه الجهد الكاف لتجعل حياتك وحياة من تحب من خلاله أكثر نضجا وجودة.
صنيعة يديك صناعة مُجْهِدة للغاية قد تؤلمك لبعض الوقت ولكنك تخطو معها إلى طريق أكثر رخاءا.
ابذل الجهد الجهيد كي تتغير، نحن لا نستحق أغلب النعماء التي نرفل فيها، بل نحن مختبرون بكل نعمة لدينا وسنقف نحاجج عليها يوم القيامة.
طيوري لم تتعلم تقديس الحياة الزوجية بل هي الغريزة التي فطرت عليها، أما نحن المتحجرين لا يزال أمامنا الكثير والكثير لنتقن فن السعادة.
تتعالى أصوات الأنا داخل أغلب الأشخاص، رغم كل الكتب والكلمات التي تحدثنا عن بذل الجهد الموازي الذي يمنحك أنفاس السعادة لكننا نتكاسل عن عمد ونصّر على الخوض في طريق الخيبة ذو النفق المظلم الخانق.
لن تتم لك سعادة وأنت جالس على أريكة ما تنتظر ما يبذل لك من تضحيات وتتعامل مع مكتسبات دنيتك كأنها حق لك.
النبتة التي لا تسقيها كل يوم لن تترعرع وتثمر مهما توفرت لها الإضاءة المناسبة والاسمدة الفعالة، الماء أولا يا صديقي!
الحب المنزه الخالص هو الماء الذي تسقي به شريكك فتثمر نبتتك وتحصد مع الأيام محصول زاخر بالمودة.
أي علاقة لن تبذل فيها جهد هي سراب العمر الذي يتركك اللاهث الباحث عن السعادة المفقودة.
ولنا في كل الأوقات والمواقف حكمة ما تلتئم بها جروحنا وعبرة ما تقدم على طبق من ذهب إذا أردت أن تنجو وتتدلى الثمار الطيبة من شجرة عمرك.
اعتدت منذ صغري رؤية ما وراء الأشياء، كنت أعلم بفطرة الشابة الصغيرة أن من وراء كل شيء أشاهده في يومي هناك رسالة مقصودة من الله.
تلك التجارب المؤلمة التي تمر عليك وعلى غيرك، تلك الرسائل الرقيقة التي تبعثها الطيور، تلك النصائح التي تتلقاها من صديق مخلص، تلك المزروعات في قلوب الأحبة، تلك التفاصيل التي تغفل عنها ويضعها الله في رسائل مغلفة ليختبر بها عقلك وقلبك، تلك التراكمات الصغيرة المكدسة في قلبك التي تقول لك ربما أنك على خطأ، تلك النعمة أن يصاحبك قلب سليم، تلك الإشارات من حولك التي تتغافل عنها بمنتهى الغباء، وتلك المحطات التي وصلت إليها والتي يقال لك فيها "أهلا بك دوما" أو "لقد حان وقت الرحيل"، هي صنيعة يديك أنت وحدك.
لن تجبرك الحياة على المضي في طريق لا يناسبك، لكن تأكد وأنت تمر في ذاك الطريق أنك أنت من يناسبه وأنك أحسنت الصحبة والبناء قبل أن تغادره.
التعليقات