منذ زمن بعيد، أذكر فيما أذكر في حجرة طفولتي مكان ما كنت أجلس فيه، كان لي وحدي، اصطحب لُعبي وأشيائي الثمينة من وجهة نظري، اتسلق أرفف الدولاب لأجلس هنالك أعلاه مُأتنسة بلعبي وعرائسي أصدقاء الطفولة الذين لازلت احتفظ بهم إلى يومنا هذا.
لا أعرف لماذا تذكرت هذا الركن البديع بعد مرور ٤٥ عام على فراغه، لا أعرف سوى أن شعور الونس والاطمئنان هذان لم يغادراني وقد تخطيت الإثنان والخمسون عام.
أعرف شيء واحد الآن، أننا قادرون على ملء فراغ أنفسنا بأي شيء وفي أي عمر وتحت أي ظرف.
يبدو أن الأمان لا يُنسى ناصيته، يبدو أن تلك الأركان التي صنعتها أفكارنا وأيدينا ومخيلاتنا مازالت ممتلئة، ويبدو فيما يبدو أننا بحاجة لزيارتها من حين لآخر.
لست أجزم أني جيدة بما يكفي، لست أجزم أن لدي القدرة على التحمل في كل الأوقات، لست أجزم أن الجميع يتقبلني بعيوني ومحاسني، لكني أعرف جيدا اني لازلت قادرة على مواجهة الحياة بنفس الشجاعة التي بدأت بها.
لم تهزمني السنوات، ولازلت انتظر من الله الكثير صاحب الخزائن التي لا تنفد، لازلت أمتلك نفس الذراعين اللذان يمكنهما حمل الجميع بلا كلل ولا ملل ولا تذمر.
أعرف اليوم بشدة قيمة الأحبة، لا زلت أصعد إلى سطح دولابي حاملة مقتنياتي الثمينة، لا زلت أتحدث إلى لُعَبي، لازلت أسمع ردودهم ولازالت أيديهم الحانية تربت على قلبي … فقط لم يعودوا لعب تتحدث في خيالي بل أصبحوا كائنات طيبة تدفئ قلبي، أصبحوا أحبة تزدان بهم دنيتي، أصبحوا قلوبا تمشي على قدمين.
لايزال ركن الكائنات الطيبة عامرا بالأحبة!!
لم أكن أعرف في طفولتي أني سأكون صاحبة قلب جميل، لكني اليوم أعرف ذلك عن يقين.
لست أفضل شخص لكني تعلمت من الصمت أفضل مما علمتني الكلمات، تعلمت أن لا أحد يمكن أن يكسر إرادتي، لا أحد يمكن أن يصادر أحلامي، لا أحد يعرفني كيف أحبه، وأنه لا أحد مُعفى من الاختبار.
في هذا الركن الممتليء تعلمت صناعة السعادة، تعلمت أن أكتفي بنفسي، تعلمت أن أكتفي بما لدي، تعلمت أن أرضى عن مكتسباتي واستمتع بها، وتعلمت أيضا أن أتشارك السعادة.
اليوم ألقى أحبتي بوجه طلق محب مهما خيّب القدر بعض آمالي، اليوم أنتظر في هذا الركن أن يكفيني الله شر القلوب الفارغة، انتظر أن يُعَمِر قلبي بمن يستحقه، انتظر أن يأتيني بأحلامي كلها مجتمعة محققة في يوم واحد ويسألني سبحانه هل حزنت يوما فأجيبه بلا يا أرحم الراحمين، انتظر رسائل الله لي كل يوم، واسعى في كل صباح لنيل رضاه.
ونعم، تغيرت الكثير من الأحلام والطموحات والآمال، أصبحت الرفقة خير ما في الرحلة، وأصبح متعة الطريق خير من هدف الوصول.
إن أفضل ما حصلت عليه في دنيتي هو أني حافظت على قلبٍ سليم. اعتنيت جيدا بأن يظل ناصع البياض، حرصت أن أخبىء عنه أنه يبدو جميلا ليظل يجتهد ويرتقي. لا أعرف هل نجحت بالفعل، لكني أعرف جيدا أني بذلت كل ما في وسعي ليظل خال من الضغائن والأحقاد.
نحن صناعة طفولتنا، ومن الخير لنا أن تكون صناعة فاخرة لرتق القلوب، صناعة سنوات قمت أنت بنفسك بإجراء الكثير من التعديلات لتلائم روحا تجعلك تفتخر بها اليوم.
ما أعجب النفس البشرية عندما تقودك بلا هدى للذكرى، عندما تحيي بداخلك مشاعر مقدسة كنت قد نسيتها، عندما تُبقي داخل روحك على جمال ما ظننت أنك نسيته بمرور الزمان.
إن خير صحبة لك على مدار عمرك هي نفسك، لو أنك صاحبتها لأهدتك في دنياك المزيد من الحياة.
أدعوك صديقي أن تتذكر معي اليوم نقاط ارتكاز طفولتك، كيف كنت سعيدا وأن تحبس تلك المشاعر، فيظل صداها يتردد داخل روحك مانحا إياك الكثير والكثير من متعة الحياة.
فإن كنت تنتظر الربيع مثلي فلا أحب وأعظم من أن تمتليء بالجمال والونس وأنس الذكريات.
التعليقات