هناك في تلك المتاهة التي نعيشها من أعوام طويلة، ثمة جدران لازالت باقية، ثمة حياة أخرى خارج أجسادنا أضافت لأعمارنا المزيد من الحياة.
تلك الشبكة المعقدة من علاقاتنا الإجتماعية والتي يتبدل فيها أدوار الرعاة طوال الطريق.
كلما اقتربت الأشياء ازدادت الرؤية وضوحا. هذه القاعدة قد تختلف قليلا في المعاملات الإنسانية. أحيانا عندما تقف في الدور الأعلى تكون الرؤية أكثر نورانية.
ألف حمد لله على كل من وضعهم مشكاه في طريقنا. كل مرحلة من العمر تفقد القلوب وتغير العصاة التي كنت تتكيء عليها، لتكتشف أن من ذهبوا كانوا مجرد محطات أخذت منها زادك للمحطة المقبلة.
يبقى بداخل روحك كلمات وأنفاس ومواقف لمن عبروا من خلالك أو غادروك، بعضها قام بتشكيل روحك على النحو الذي صِرت عليه اليوم.
أتعرف يا صديقي ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لك؟ أن تفقد قدرتك على مصاحبة نفسك، أن تنتظر أن يؤنسك الآخرين، أن تعيش فراغ وحدتك، وأن تكون مجالسة روحك رتيبة.
كلنا نمر في فترات طويلة من حياتنا بما يسمى "فقدان العز". مرحلة وَحْشَة من فراغ النفس وتَرَح الروح وتوهان الطريق.
إن التبصر في شريط حياتك الماضي يجعلك تقدر الإنسانية التي تسبح في خلايا روحك اليوم.
انظر بداخلك، توقف عن رؤية الصوابية التي تحتل المرتبة العليا داخل نفسك وضع نفسك في أدنى المراتب. رويدا رويدا تحاور مع روحك وهي في أدنى مراتبها ثم اسأل نفسك سؤالا واحدا … كم شخص وقفت بجانبه وقفة عز؟
العز هو تلك المرتبة المتفردة التي انتقل أحدهما بداخلها من خلالك إلى طرقات أكثر نورًا ودَعَة.
كل من أعطاني ضمانة لاستمرار تنفس قلبي، كل المرات التي تمسكت فيها بأحدهم وافلتُ موقفي لآخر أكثر رَصَانَة كان بجانبي قلب في موقف عز.
هؤلاء الأبطال شكلوا النصيب الأعظم من جودة معيشتنا ويسر إقامتنا في الحياة.
مقال اليوم هو دعوة لكل من يقرأ ليتذكر أحبابا شكلوا السحاب الواقي من قيظ الدنيا وكانوا البلسم الخفي الذي جعلنا نتجاوز ونعبر لشواطئ أكثر سلاما.
اغمض عينيك وارجع بذاكرتك الحاضرة لسنوات مضت، بل لسنوات أكثر بعدا مما تتصورها الآن. اجتهد بشدة لتبحث عن من أوجد في حياتك قطعة الأحجية المفقودة. هذا الإنسان الذي ربما خالطته لبعض الوقت أو ربما على مدار العمر والذي قد يكون غادر أو لا زال باقيا.
تخيل معي لو أن القدير كان قد استثناه من التواجد على خارطة سنوات عمرك، إلى أي قدر كانت ستؤول حياتك اليوم؟
إنها دعوة شكر وعرفان بالجميل.
أتعرف يا صديقي ما هو أفضل ما تقدمه لنفسك، إنها نيتك!
تلك اللحظة القلبية الفارقة التي تترك فيها غيرتك وتطلعاتك وتغادر نفسك الطامعة في المزيد متمنيا السلام والرخاء لمن تعرفه ومن لا تعرفه، هي ببساطة الطريق الأوحد لعز قلبك.
الله تعالى ينظر إلينا من الداخل، لا أحد يمتلئ بنفسه إلا إذا كان يمتلك قلب خيّر ونفس عفيفة تخشى الزيادة وتنتقص من قدرها لتهذب روحا صعبة الترويض.
لم أجد مكانا أكثر أمانا لقلبي سوى بسلامة نيتي، ولو تحدثت إليك عن مواقف مررت بها ما أنقذني من قسوتها وفتكها سوى أني قدمت الغير على مطلبي، لم استحل يوما مغنمة الغير، لم أنظر إلى نعمة إلا داخل جدران بيتي ولطالما عفت روحي عن مكاسب الغير، لم أقارن يوما رزقي بغيري، لم أضع يوما جهدي أمام مكاسبي، ولم افتح نافذة تطل على شيء سوى دواخل حياتي.
هل أدلك اليوم على أفضل رزق لك؟ هل أعرفك أسرع طريق للرخاء؟ إنه الزهد يا صديقي وعدم انتظار قدوم النعم.
لقد اكتشفت بعد عمر طويل قضيته في دنيتنا أن رزقك هو ما يبحث عنك ولست أنت من تجتهد للحصول عليه. الله يرزقك وقت أن يراك مستحقا من الداخل وليس وقت أن توفي اجتهادك.
النعمة تبحث عن صاحبها وقت أن يغفل عنها، وأفضل تلك النعم من أخذ بيدك إلى الرشاد.
هؤلاء هم رزقك الباقي في الدنيا، من كان سببا في درء عَوَز قلبك، من أعانك على نفسك وصوب بوصلتك وارشدك لرؤية ما وراء الأشياء.
في كل محطات دنيتنا مرفأ آمن ينتظرك فيه أحدهم ليعينك على اختيار طريقك المأمون ويجعل سعيك في دنيتك يستحق الإشادة ويهون عليك مشقة الجهاد.
في العامية المصرية هناك من يسمى "بكبير العيلة"، هو رب البيت كان أب أو أم أو أخ أو أخت أو جار أو صديق. هؤلاء كانوا الأهِلة الذين تبدد في حضورهم الظلام.
كن أنت كبير عائلتك، قف وقفة عز لكل من يجاورك يفديك الله ويجيب دعوتك ويجنبك قسوة الأقدار.
إن الصعاب تهون إن وجدت من يحملها معك، فلتكن تلك اليد التي تلتقط وتطبطب وتهون وتدفع للأمام ولتكن دومًا صاحب العز الذي لا ينضب معينه أبدا.
التعليقات