من حين الى آخر، تتبادر الى آذان محبي الشعر أبيات هى الغاية في الروعة و الصنعة و التدفق المبهر، فيهرع السامعون الى الاستفسار عن صاحب هذه الابيات الخالدة و كلهم ظن أنه احد فطاحل العصر العباسي او الأندلسي، ولكن الدهشة تأخذهم عندما يعلموا ان هذا الشاعر الفذ هو ابن الماضي القريب وانه كان يعيش بين جنبات بلادنا و يروح و يجىء فوق هذه الأرض و تحت هذه السماء في العصر الحديث. و ما تلبث هذه الدهشة الا ان تتحول الى احساس بالذنب و شعور بالتقصير تجاه هذا الأديب الفذ و الشاعر المبدع الذي ملأ دنيانا بكل هذا الابداع و كل هذا الجمال و لكن لم يشفع له ذلك لكي ينجو من دائرة النسيان المحزنة.
من هؤلاء الأعلام العظام اسماعيل باشا صبري الشاعر الكبير الذي زين اخريات القرن التاسع عشر و اوائل القرن العشرين بقصائده المبهرة و الممتعة ففيها من جمال الاسلوب ما يسمو بها لأعلى مراتب الشعر و فيها من حلو الموسيقى القدر الملفت المبهر و فيها من الرقة القدر المميز الجذاب. ولد اسماعيل صبري بالقاهرة في عام 1854 و نهل من مناهل العلم و الادب و تميز في دراسته و مساره الوظيفي حتى تقلد ارفع المناصب خلال سنوات حياته و لكنه مع ذلك كان دوما مبقيا على فسحة مخصصة للشعر و الادب في حياته الثرية، فمن حين الى آخر كانت نفسه المتقدة بحب الأدب و الجمال تنطلق لتتحف الجميع بقصيدة من قصائده الرائعة، و ما زال يبدع وتتوالى قصائده الرائعة الى أن توفي في شهر مارس من العام 1923.
هذا التفرد و هذا الابداع الشعري كان محل تقدير و اعتراف من كبار الادباء و الشعراء في ذلك العصر. فهذا حافظ ابراهيم يدعو الشاعر الكبير بأنه أستاذه و استاذ شوقي، و هؤلاء معاصروه يسارعون الى منحه لقب شيخ الشعراء. و هؤلاء محبيه بعد وفاته يقومون بجمع ما تفرق من شعره و يضمونه بين دفتي كتاب قام بتصديره الاستاذ طه حسين و الاستاذ احمد امين و الاستاذ انطون الجميل في دراسات تقديمية تزخر بالشهادات السامية عن الشاعر و شعره و حياته الحافلة و فيها من تحليل شخصية الشاعر و رسم صورة عنه و عن حياته و من تحليل طبيعة الشعر و تبيين مواطن الروعة و الجمال ما يرسم لقارىء الشعر صورة مفصلة عن الشاعر و شعره حتى ليحسب القارىء أنه قد خالط الشاعر و قابله و تعرف اليه عن قرب، و ذلك بالإضافة الى مقدمات جامع الديوان حسن رفعت و مصححه أحمد الزين. كل هذه الحفاوة انما تعبر عن قدر هذا الشاعر المتفرد و عن حجم الخسارة عندما ينزوى مثل هذا العلم الشامخ في دائرة النسيان.
و من بين قصائده الجميلة نجد هذه الابيات الرائعة المليئة بالعاطفة و العذوبة و الرقة و التدفق و الموسيقى الساحرة:
“أَقصِر فُؤادي فما الذكرى بنافعةٍ ولا بشافعةٍ في رَدٍّ ما كانا سلا الفؤادُ الذي شاطَرتهُ زمناً حملَ الصبابةِ فاخفِق وحدكَ الآنا ما كان ضرَّك إذ عُلِّقتَ شمسَ ضُحىً لو ادَّكَرتَ ضحايا العشقِ أَحيانا” و غيرها الكثير من الأبيات الساحرة التي تدعو محبي الشعر و الأدب الى تسليط الضوء على هذا الشاعر الفذ الذي ابدعت قريحته فرائد القصائد في عصرنا الحديث و الى العودة الى تذوق هذه القصائد العذبة التي انتجتها قريحة هذا الأديب المتفرد.
نُشر طبقاً لبروتوكول النشر الدولي المشترك مع مجلة "آسيا إن"
التعليقات